28-أبريل-2021

نحن إزاء عملية تدوير مغلقة على نفسها وتعيد إنتاجها في كل مرة (فيسبوك)

إذا نظرنا إلى كارثة مستشفى ابن الخطيب من جهة العموم باعتبارها حادثة عرضية تحدث في كل حين في أرقى المجتمعات  التي تتمتع ببنى تحتية راسخة ونظم إدارية عريقة، فإننا سندخل في أدبيات التبسيط والمقارنات المجحفة، فهو قياس مع الفارق بكل المقاييس. بعبارة أوضح، لو ناقشنا الكارثة من منظور متطور مثلما يحدث، مثلًا، في أمريكا وأوروبا، حيث تجري تحقيقات مهنية ودقيقة، ويترتب عليها محاسبة المقصرين وإحالتهم إلى القضاء، وعلى أثرها يتم تجاوز الأزمة بمزيد  من العمل الدؤوب، وأخذ العبرة لتجنّب كارثة مماثلة، فبكل تأكيد لا يجري هذا في بلد قائم على المكاسب الحزبية والفئوية مثل العراق. فلا زالت الكثير من الكوارث ماثلة في ذاكرتنا لم تسفر عن نتيجة عملية، اللهم إلا حجم الورق والتقارير التي كتبت فيه.

منذ تأسيس نظام المحاصصة لم نسمع بوزير قدّم استقالته على أثر فشل إداري أو الاعتراف بالتقصير

في البلدان التي عانت الأمريّن من الكوارث والحروب والمعارك الداخلية، راكمت من هذا التاريخ الحافل قواعد بيانات ضخمة اكتسبت من خلالها خبرة عريقة في إدارة الأزمات. لذلك تعمل البلدان، التي تحترم شعوبها، إلى عبور الأزمات وعدم تكرارها من خلال ما وفّرته خبرتها السابقة. تعمل الصين ليل نهار على توفير الطاقة النظيفة للحد من التلوث البيئي، وهي تكدّس الأموال الضخمة لهذا الشأن. على سبيل المثال، من الصعب للغاية نتخيّل أن الصين ستمر بمجاعة مماثلة كالتي مرّت بها في زمن ماو تسي تونغ، نظرًا للخبرات المتراكمة والدروس البليغة التي راكمت قاعدة بيانات ضخمة لدى النخبة السياسية الصينية. يمكن أن نسرد عشرات الشواهد التاريخية الحافلة بأخذ العبر والاستفادة من إخفاقات الماضي، غير أنها لم تعد سرًا من الإسرار بعد هذا الانفتاح الهائل بفضل التكنولوجيا الفائقة.

اقرأ/ي أيضًا: جحيم مستشفى ابن الخطيب: جثث متفحمة في ردهة إنعاش مرضى "كورونا"

تعالت الكثير من الأصوات في مواقع التواصل الاجتماعي بتنحية وزير الصحة كرد اعتبار، على الأقل، لذوي الضحايا، أو حفاظًا لماء الوجه على الأقل. كما لو أن تنحية الوزير المعني ستحل المشكلة! المهم في الأمر، منذ تأسيس نظام المحاصصة لم نسمع بوزير قدّم استقالته على أثر فشل إداري أو الاعتراف بالتقصير. وكما نوّهنا أعلاه، أن محاولة التشبّه بالبلدان المتقدمة أمر مضحك ويثير الخجل. حتى لو افترضنا استقالة وزير الصحة، فهي لا تندرج في عداد أخذ العبرة ومحاولة توفير البديل اللازم لتقديم نموذج يختلف عن السالف، كلّهم في التقصير سواء؛ ستعمد الجهة التي ينتمي لها الوزير بتزويد لوزارة بأحد كوادرها الجدد، لأن الوزارات عبارة عن حصون منيعة موزعة بعدالة على القوى السياسية.  لا توجد مشكلة في أن يقدم العراق بين فترى وأخرى قافلة من المغدورين؛ سواء كانوا ضحايا التفجيرات، أو شهداء الإرهاب، أو قضوا غرقًا في عبّارة، أو ضحايا إبادة جماعية كحادثة سبايكر الأليمة. ما يهم هو انسيابية توزيع المغانم، أما الموت يستقبله العراقيون كما يستقبلون وجبات الطعام الروتينية.

لذلك، أنا لا آخذ التوصيات التي قام بها مجلس الوزراء على محمل الجد؛ فالبنية التحتية منهارة على كل الصعد، وقد فشلت كل هذه الثروات الهائلة التي يمتلكها العراق من توفير مناخ ملائم للعراقيين للشعور ببشريتهم على الأقل! بنانا التحتية تتعدى الطرق، والجسور، والمؤسسات؛ إنها معضلة منظومة اجتماعية وسياسية تتبادل الأدوار فيما بينها. لذلك أكرر، القضية أكبر من استقالة وزير من عدمها، القضية تكمن هنا وبالذات: نظام سياسي واجتماعي فاسد يعاني من أعطاب مزمنة، ولا يتعّض من أحداث الماضي (كما تفعل الأنظمة التي تحترم شعوبها طبعًا) وضحاياه هم دومًا هؤلاء المغدورين الذين يموتون بالجملة.

حتى حالة الانسداد التي نعاني منها والتناقضات التي تنتجها لا تؤدي إلى نتيجة مرجوة؛ نحن إزاء عملية تدوير مغلقة على نفسها وتعيد إنتاجها في كل مرة بأشكال تعبيرية مختلفة.. هذا حال السياسة والمجتمع في العراق منذ عقود. أما كارثة مستشفى ابن الخطيب الأليمة، فإنها نموذج مصغّر عن بلد يمتلك أكبر قاعدة بيانات بقوافل المغدورين، ويتمتع بأدبيات طافحة بهذا المعنى: نموت وتحيا السلطة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

من تشيرنوبل إلى ابن الخطيب.. نظام الكوارث الحتمية

قرارات جديدة حول فاجعة ابن الخطيب: سحب يد وزير الصحة ومحافظ بغداد