يَصعُب التعليق على الحوادث – أو قل الكوارث – التي تحدث في العراق للناحية التحليلية والسياسية، بل بات الرثاء واستخدام العبارات الأدبية في وصف الحدث صعبًا ومكررًا لكثرة المآسي. نتحدث عن بلاد تشهدُ كل أنواع الجرائم بحق الإنسان والإنسانية، ويتعرض شعبها للموت بطرق متعددة تحتاج لفهرست إن أُريد تنظيمها.
الموتُ غير الطبيعي في العراق هو الموت الطبيعي في العالم، لناحية حدوثه واستقباله من الناس
مئتان، بين شهيد وجريح، هي إحصائية وزارة الداخلية لحريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد. حصيلةٌ من شأنها ليس إسقاط حكومة بأكملها في دول لا نقل تحترم حياة مواطنيها بل تخشى ردود فعلهم. وللأسف، فأن سقوط الضحايا في العراق ليس خبرًا عاجلًا، لا بالنسبة للحكومات ولا للمواطنين. أصبح الأمر معتادًا وكأنه حتمية الموت (الطبيعي) الذي يُحزن ذوي الضحية دون ضجيج. الموتُ غير الطبيعي في العراق هو الموت الطبيعي في العالم، لناحية حدوثه واستقباله من الناس.
اقرأ/ي أيضًا: جحيم مستشفى ابن الخطيب: جثث متفحمة في ردهة إنعاش مرضى "كورونا"
تشتَتَ غضب الناس موجهًا نحو الحكومة، رئيسها، وزير الصحة، مسؤولي القطاع، والتيار السياسي الذي يُعرف عنه استحواذه على مفاصل الوزارة. وكل المذكورين، والتشتت ذاته، ليس غريبًا لا لناحية الحوادث المشابهة في أماكن أخرى، ولا بالأخذ في سياق النظام العراقي.
أحيانًا، وأشدد على كلمة أحيانًا، يبدو الغوص بالتفاصيل طريقًا سيؤدي إلى تشتيت الأنظار، وقد لاحظنا ذلك بطريقة متعمدة في وسائل إعلام بعض الدول الاستبدادية عند حصول كوارث. وإننا إذ نستبعدها في حالة ابن الخطيب، نحاول التذكير بالأسباب الرئيسة التي أدت لهذه الفاجعة وأخواتها.
تناول تقرير لديوان الرقابة المالي الاتحادي لسنة 2017، واقع المستشفيات في العراق بعد زيارة فريق لبعض منها، حيث سجّل عدم وجود منظومات إطفاء ذاتي في جميع المستشفيات إضافةً إلى عطل أغلب منظومات الإنذار المبكر للحريق في المستشفيات.
رصد الفريقُ قلة عدد المطافئ وعدم وجود مستلزمات إطفاء متكاملة في المستشفيات مع عدم وجود خراطيم مياه خاصة بالإطفاء في بعضها، وعدم وجود سلام ومخارج خاصة بالطوارئ، وقلة لجان الدفاع المدني. وبحسب التقرير، فأن قرابة نصف المستشفيات التي زارها الفريق لا تتوافر لديها خراطيم المياه المعالجة للحرائق.
من المهم أن يتذكر المواطن العراقي، أن هذا التقرير جاء بعد حادثة مستشفى اليرموك الذي راح ضحيتها أطفال حديثو الولادة، ومر على ثلاث حكومات، العبادي وعبد المهدي والكاظمي، وثلاث وزراء، من عديلة حمود حتى حسن التميمي.
يُحذر هذا التقرير بلهجة واضحة من كارثة سيستشعرها أيُ عارفٍ بمخاطر الحرائق. لكن المشكلة في النظام ليست غياب المتخصصين فحسب؛ بل أنها تتجاوز ذلك إلى مشكلة أخلاقية كبرى تتمثل بعدم الشعور بالمسؤولية، وعدم احترام حياة الناس، واستسهال العبث بالمبادئ العلمية.
مع وجود نظرية المؤامرة، ليس من المستبعد أن يكون الإهمال هو السبب المباشر لهذه الحادثة. والإهمالُ في قوانين كرة القدم هو من أقل الأخطاء التي يُحاسب عليها القانون نوعًا، ويضع لها معادلات أخرى كالتهور؛ إلا أن الإهمال في إدارة الدولة والمؤسسات قتلٌ مع سبق الإصرار.
لخّصت الحادثة ومثلها الكثير المساؤى الكبرى لنظام المحاصصة القائم على التوظيف وفق أسس حزبية وطائفية من أعلى الهرم حتى أسفله. من رأس الوزارة حتى "الفرّاش" بالتعبير العراقي. وهي عادت لتؤكد أن المشكلة ليست بالوزير أو من هو دونه، إن كان حزبيًا أو مستقلًا جاءت به الأحزاب أو رئيس الحكومة، بل بنظام كامل ستكون الكوارث في ظلّه حتمية، بتعدد الأسباب والظروف.
لعل تعليق رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي في فترة حادثة تشرنوبل، نيكولاي رايزكوف، يختصر الكثير في هذه النقطة، إذ يقول: "لقد سرقنا من أنفسنا، أخذنا وقدمنا رشاوى، كذبنا في التقارير، وفي الصحف، ومن المنابر العالية، لقد تمرّغنا في أكاذيبنا، أعطينا ميداليات لبعضنا بعضًا. وكل هذا جاء من أعلى النظام إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى".
المشكلة ليست بالوزير أو من هو دونه، إن كان حزبيًا أو مستقلًا جاءت به الأحزاب أو رئيس الحكومة، بل بنظام كامل ستكون الكوارث في ظلّه حتمية
ستبقى السرقات والرشاوى والكذب عناوين لهذا النظام - نتحدث بهذه اللهجة الحتمية المتجاهلة للتغيّرات الممكنة لأن لا مؤشرات على شعور بالخجل، أو المسؤولية - حتى تكبر النتوءات شيئًا فشيئًا لتنفجر.
اقرأ/ي أيضًا:
قرارات جديدة حول فاجعة ابن الخطيب: سحب يد وزير الصحة ومحافظ بغداد
أعاد إلى الأذهان صورًا مروعة.. تضارب أنباء حول حريق في مستشفى الطفل المركزي!