16-يوليو-2020

بعض المثقفين يدعون إلى ثورة على مؤسسات السلطة التي يجلسون فيها (فيسبوك)

قال الأمير الشهابي لخادمه يومًا: تميل نفسي إلى أكلة باذنجان.

  فقال الخادم: الباذنجان! بارك الله في الباذنجان! هو سيد المأكولات، شحم بلا لحم، سمك بلا حسك، يؤكل مقليًا ويؤكل مشويًّا، يؤكل كذا ويؤكل كذا.       

  فقال الأمير: ولكن أكلت منه قبل أيام فنالني كَرْب.

  فقال الخادم : الباذنجان! لعنة الله على الباذنجان! فإنه ثقيل غليظ نفّاخ.

   فقال الأمير : ويحك! تمدح الشيء وتذمُّه في وقت واحد؟!

تحيلنا هذه القصة الطريفة والتي تتضمنها كتب التراث إلى ما يعرف بـ"التفكير المزدوج"، والذي يلازم دائمًا العاملين في أروقة السلطة ومؤسّساتها، الأمر الذي يجعلهم يفكرون بهذه الطريقة ويبدلون جلودهم كلما تغيرت الظروف المحيطة بهم؛ مراعاة لمصالحهم الشخصية. ويعرف الروائي الإنجليزي جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984 التفكير المزدوج بقوله: "قدرة عقل المرء على حمل معتقَدَيْن متناقضين في الوقت عينه، وقبولهما معًا".

التفكير المزدوج والمثقف العراقي

ونظرًا للهزات والتغييرات التي تعرض لها المجتمع العراقي خصوصًا في أنظمة الحكم، والاحتجاجات والثورات التي تحصل بين الحين والآخر، والتي جعلت المثقف العراقي مكرهًا على أن يتكيف معها. فبعد سقوط النظام بعد 2003 تحولت دار الكتب والوثائق العراقية إلى ما يشبه الكعبة التي يطوف حولها بعض مثقفي السلطة الذين كتبوا الدراسات والمقالات والقصائد بحق حزب البعث وقائده؛ لكي يقوموا بسحب هذه الوثائق ويتلفوها؛ مما يؤهلهم لكتابة سيرتهم بحسب ما يشتهون لا بحسب الواقع، وهنا  يتحولون من مثقفي سلطة إلى ثوار ومضطهدين ومطاردين من قبلها، بعد أن اطمأنوا بإتلاف جميع الوثائق القديمة التي تثبت عمالتهم للسلطة السابقة، وما كتبوه بحقها، في الوقت التي كانت الأخيرة ترتكب المجازر بحق شعبها، وذلك ما يضمن لهم الحصول على مناصب جديدة في ظل السلطة الجديدة بعد أن خلقوا صورة تثير شهوتها.

مثقفو السلطة  لا يحترمون حدودهم ولا ينظرون الى ذواتهم جيدًا معتقدين أن تفكير الناس هو هو ولم يتقدم خطوة واحدة

من المعروف أن الماضي هو ما تتفق عليه السجلات وذكريات الناس، ولتغيير هذا الماضي فانه يستدعي جهودًا سلطوية لا جهود أفراد، لذلك باءت محاولتهم بالفشل، فالأدلة والوثائق متوفرة عند أغلب الناس ممن عاصروا تلك الحقبة المظلمة، والذين ظنوا أن الوثائق القديمة أصبحت في غياهب النسيان صدموا بظهورها من جديد، وأن التلاعب بالواقع أمر غير مجدٍ قط، وأن الأرشيفات لا ترحم، مهما بدلوا جلودهم مع كل سلطة.

اقرأ/ي أيضًا: المثقف العراقي.. من الاستبداد إلى الاحتلال الأمريكي

وفي انتفاضة تشرين، والتي شهدها العراق مؤخرًا، فإن الكثير من أصحاب التفكير المزدوج ظهروا إلى السطح من جديد، فهم يضعون قدمًا عند السلطة وأخرى عند الثورة، وحينما تحين ساعة الحسم يتخذون قراراهم النهائي الذي فرضه الواقع عليهم. والمشكلة أن هؤلاء لا يحترمون حدودهم ولا ينظرون إلى ذواتهم جيدًا معتقدين أن تفكير الناس هو هو، ولم يتقدم خطوة واحدة، وأن ماضيهم قد نسي تمامًا وقد كتبوا آخر بحسب ما يرغبون.

 فيتكلمون عن ضرورة استقلالية المثقف وعلاقة السلطة بالمثقف، ويسمون أنفسهم بشعراء الثورة، ويطلقون الحملات المسعورة والمشفوعة بالحقد والكراهية على كل من يظنون أنه مثقف أو شاعر سلطة، متناسين المستنقع الذي يقفون فوقه، وهو مستنقع السلطة ذاتها التي يدعون محاربتها ومحاربة كل من له صلة بها، والتي تغدق عليهم الرواتب المزدوجة والامتيازات والتي كتبوا لها المقالات والقصائد والدراسات أبًا عن جد، فمن شابه أباه فما ظلم.

هؤلاء ليس بإمكانهم أن يصبحوا أصحاب مبدأ، صادقين مع أنفسهم، فليس بإمكانهم خسارة السلطة وفي نفس الوقت ليس لديهم قدرة على خسارة الرصيد الاجتماعي والذي صنعوه بالكذب والخداع وتأسيس تاريخ موارب، ولذلك يفكرون بطريقة مزدوجة تجمع الشاة مع الذئب بحسب المثل. ولكن سرعان ما سوف يسقط عليهم هذا التاريخ ويكشف حقيقتهم، فموضوع المثقف والسلطة وحدود العلاقة بين المثقف والسلطة ينبغي أن يصدر من الناس الذين هم خارجون عن فضاء السلطة، الناس الذين سحقتهم السلطة وجعلتهم على حافة الموت جوعًا وقهرًا، ولا ينبغي أن يكون حديث المثقف الانتهازي صاحب التفكير المزدوج الذي يدعو إلى الثورة، وهو جالس يعمل في مؤسساتها، منعم بالمال والترف. وفوق ذلك كله، يحاول ترحيل عيوبه إلى الآخرين، ظانًا أن ذلك يؤسس له ذكرى طيبة وموقف مشرف يتذكره الناس، فالأرشيف لا يرحم بتاتًا ولا تنطلي عليه هذه الألاعيب، فما بعد تشرين ليس كما قبلها، وهذه الثورة استطاعت أن تكسر آلية الجمع بين المتناقضات في المواقف، فاليوم لا ينفع المثقف الانتهازي مالٌ ولا بنون، إلا أن يأتي الناس بتاريخ سليم غير ملوث بقذارة المديح للسلطة والعمل مع أحزابها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مسؤولية المثقف.. بين حاجة المجتمع وإغراءات السلطة

جدلية المثقف والجمهور