إن إرهاصات عالم جديد - على خشونتها وفظاظتها (وهذه حالها جميعًا) هي - دائمًا - أفضل من حشرجات عالم يحتضر. غرامشي- قضايا المادية التاريخية.
إن شعارات الجماهير ذات الصبغة المثالية لا يمكن أخذها على محمل الجد في لحظات الحماس الثوري. ذلك أن الجماهير لا تعتمد حرفيًا على فهمها الأيديولوجي وموقفها المعرفي، ولا تسوقها الحجج المنطقية الصلبة، وإنما تتحرك طبقًا لإيمانها بموقفها؛ فمن الصعب للغاية توحيدها ضمن وتيرة نظرية واحدة، غير أن الإيمان قادر على تذويب هذه الكتلة في موقف واحد. لذلك شهدنا الكثير من المواقف الفكرية المتعددة، بينما بقي موقف المتظاهرين على نمط الثبات والصمود والمطاولة. ويمكن تعميق الخطوط العريضة لأيديولوجيا الجماهير وجعلها كلًّا متماسكًا بحضور المثقف الفاعل، كما سنبيّن، لكن سمة الإيمان تبقى الرابط العضوي المتين الذي يعزز ثباتها وحضورها. على أن التركيز على سمة الإيمان لا ينفي قوة التنظير وأهميته كما سيتّضح لاحقًا.
إن أي جماعة بشرية ما -بحسب غرامشي- لا يمكنها أن تميّز نفسها عن سواها، ولا تحقّق استقلالها الناجز إلا إذا نظّمت نفسها، ولا تنظيم بدون مثقف
يقول غرامشي إن الجماهير الشعبية لا تستجيب، معرفيًا، بسرعة في تغيير رؤيتها للعالم. لأنها، لا تتبنّى رؤية صافية، بقدر ما تتبنّى رؤية هجينة أو خليط هجين ومتنافر، بحسب وصفه. مؤكد إن التنظير المتماسك والحجج المنطقية الصلبة النابعة من الواقع تمثّل أهمية نسبية من وجهة نظر فيلسوفنا، لكنّ الفعل الحاسم لا يكون للتنظير. إن كان ثمّة حسم للتنظير المتماسك، فسيكون في الأمور الثانوية، عندما يمر الحراك الجماهيري في أزمة انتقالية تتقلّب بين الجديد والقديم. ثمّة لحظات حاسمة تمر بها الأجيال الجديدة حينما تفقد إيمانها بالقديم، غير أنها لم تلتزم بالجديد بعد، فحينئذٍ سيكون للتنظير في هذه اللحظة المصيرية أهمية تٌذكر.
اقرأ/ي أيضًا: المثقف العراقي.. من الاستبداد إلى الاحتلال الأمريكي
إذا كانت الجماهير تتحرك طبقًا لإيمانها العميق، ويعد هذا الأخير نقطة الاختبار والحسم الحقيقية في صدقية المطالب التي تنادي بها، فما هو الموقف الحقيقي للمثقفين، وكيف لنا أن نختبر مواقفهم الفكرية، ما المعيار الذي يمكننا أن نختبر به الإطار النظري الذي يتبنّاه هذا المثقف أو ذاك؟
يطرح الفيلسوف الإيطالي الكبير أنطونيو غرامشي هذا السؤال: ألا يعاني الإنسان في كثير من الأحيان من تناقض بين موقفه الفكري وبين نمط سلوكه، فأي منهما إذن رؤيته الشاملة الحقيقية: تلك التي يؤكدها منطقيًا على أنها موقفه الفكري؟ أم تلك التي يفصح عنها نشاطه العملي والتي يتضمنها نمط سلوكه؟ وبما إن كل نشاط هو نشاط سياسي؛ ألا يسعنا القول إن الفلسفة الحقيقية لكل إنسان هي كامنة برمتها في نشاطه السياسي؟
إن المواقف السياسية لا تبقّى معلّقة بالسماء، ولا هي تنتمي إلى صنف التجريدات المنطقية. لقد شهدنا في حراك تشرين بالعراق الكثير من وجهات النظر والرؤى. لكنّ الميزة الأساسية للاستقلال عن الآخرين، ورسم معالم التغيير تأتي عن طريق الممارسة السياسية لا غير، إذ ستبقى التنظيرات المعرفية حبيسة الأكاديميات والأذهان والمكاتب والمقاهي. إن أي جماعة بشرية ما - بحسب غرامشي- لا يمكنها أن تميّز نفسها عن سواها، ولا تحقّق استقلالها الناجز إلا إذا نظّمت نفسها، ولا تنظيم بدون مثقف، أي بدون منظمين وقادة. يصر فيلسوفنا، أنه لا تنظيم يمكنه أن ينجز الأمور بدون تحديد دقيق لملامح العنصر النظري من وحدة النظرية - الممارسة تتولّاه فئة من البشر "متخصصة" في صياغة الأفكار والمفاهيم. ويقر غرامشي، أن عملية تكوين المثقفين عملية شاقة وطويلة، تكثر فيها الانتكاسات والتناقضات والبعثرة واللانظام، التي ترهق، بعادتها، الجماهير وتزعزع ولاءها. لكن ثمة حركة جدلية بين المثقف والجمهور: كل قفزة إلى الأمام تلحقها تطورات مماثلة في أوساط الجماهير البسطاء.
تشيع الكثير من وجهات النظر السلبية عند بعض المثقفين، ذلك أنهم يتصورون أن سرعة التغيير في الذهن تماثل سرعة التغيير في الواقع، وبالطبع لا يقصدون ذلك بطريقة مباشرة، وإنما واقع الحال والخطابات التي يعيدون تكرارها تؤكد ذلك المطلب، خصوصًا أنهم يعززون وجهات النظر هذه بمعزل عن الشروط وإمكانيات الواقع. ولذلك يقول الراحل سمير أمين - نقلًا عن أحد الكتّاب - إن نخب العالم الثالث عادةً ما تكون مُحتقرَة بنظر الجمهور، لأنها تحتقر شعوبها وتصفهم دائمًا بالجهل والتخلّف، فمن هنا لم تستطع هذه النخب من المساهمة في التغيير لوجود الفجوة الكبيرة بينهم وبين شعوبهم. إن بعض النخب تحاول إسقاط آليات جامدة على الواقع حتّى لو كان هذا الأخير لا يتقبلها لأنه يفتقر للبنى التحتية اللازمة لتحقيق النموذج. فبالتالي يغدو المثقف هنا أحد أدوات الانسداد، بدلًا من كونه مساهمًا في فتح إمكانيات جديدة.
شبّان تشرين في العراق فتحوا لنا إمكانيات جديدة للتفكير وإعادة النظر وصياغة رؤية سياسية جديدة لطبيعة الصراع الدائر بين المعارضة الجماهيرية والسلطة
إن النصائح التي يهبنا إيّاها غرامشي هي كالتالي:
- أولًا: لا تمل من تكرار حججك (ولكن؛ مع تنويع أسلوب عرضها). فالتكرار أفضل أسلوب تربوي للتأثير على الذهن الشعبي.
- ثانيًا: اعمل بلا كلل لرفع المستوى الثقافي لفئات متنامية من السكّان؛ أي لإضفاء ملامح محددة على الكتلة الجماهيرية الهلامية.
بمعنى، العمل على تكوين نخب مثقفة من طراز جديد، تخرج من صفوف الجماهير، وتبقى على صلة وثيقة بهم. هذه العملية المعقّدة والمستمرة، قد تُتَوَّج بظهور فيلسوف عظيم -بحسب غرامشي- يتمتع بالقدرة اللازمة على تمثّل المطالب الآيديلوجية العريضة للجماعة, وأن يدرك -وهنا بيت القصيد- أنه لا يمكن أن تكون لهذه الجماعة سرعة الحركة المتوافرة لذهن الفرد، وأن ينجح في صقل العقيدة الجماعية على أكمل وجه. هذا ما يعلمنا إيّاه غرامشي، على خلاف النخب المستمتعة بأوقاتها الهانئة، وتتخذ من الهروب وسيلة ناجحة لكل حدثٍ سياسي ضخم، ولا نراها إلا بعد فوات الأوان، أو على أقل تقدير تظهر لمداعبة غرائز الجمهور ثم تختفي طويلًا عن الأحداث.
اقرأ/ي أيضًا: جورج طرابيشي.. استفزاز المثقف بصدمته
تزداد القطيعة بين المثقف والجمهور حينما يقفز المثقف على شروط المرحلة التاريخية، محاولًا تقديم رغباته الشخصية لفهم الواقع. والرغبة لا يمكنها أن تدرك الحقيقة كما هي إلا بوصفها شيء متعالٍ عن التاريخ، فيقع المثقف ضحيّة الإسقاط، ذلك أن هذا الأخير أوسع من الواقع. وإنه، بحسب إنجلز، لمن السذاجة الصبيانية أن نجعل من جزعنا الشخصي برهانًا نظريًا. وحده الواقع ومواضيعه المتحركة والمتغيرة من يحدد حجة الأفكار ومعقوليتها.
لذا، وعلى سبيل المثال، فإن أحداث انتفاضة تشرين في العراق تلهم المثقف على صياغة أفكار جديدة تنسجم مع متطلبات المرحلة التاريخية، ذلك أن "اعتناق الجماهير لأيديولوجيا، أو نبذهم لها هو المحك النقدي الفعلي لمعقولية أنماط التفكير وتاريخيتها". لذلك، فإن المنافسة التاريخية، بحسب غرامشي، ستطرح كل التركيبات الأيديولوجية الاعتباطية، بالرغم من أن هذه الأخيرة قد تحظى بشعبية ما. أمّا التركيبات الأيديولوجية الملبية لحاجات حقيقية عضوية معقدة من التاريخ، يقول غرامشي، فإنها تفرض نفسها دائمًا ثمّ تنتصر في نهاية المطاف، بالرغم من أنها تمر بعدّة مراحل انتقالية، تؤكد نفسها على شكل تركيبات متنافرة وهجينة.
إن كان ثمّة شيء نفتخر به في هذه الحقبة التاريخية، هو أن شبّان تشرين فتحوا لنا إمكانيات جديدة للتفكير وإعادة النظر وصياغة رؤية سياسية جديدة لطبيعة الصراع الدائر بين المعارضة الجماهيرية والسلطة في العراق. لقد كان هذا الصراع خافيًا ومستترًا، لكنّهم أماطوا اللثام وأزالوا القشرة الخارجية لهذا التداخل. في الخطوة المستقبلية الثانية سيكون - حسب المفترض- ترجمة خطاب المعارضة إلى ممارسة سياسية مُنَظّمَة، للإسراع في عملية التمايز بين سلطة تدافع عن وجودها ومعارضة تدافع عن وجود الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا: