14-يوليو-2021

ثمّة عناصر جوهرية تشكّل لحم العراقيين (فيسبوك)

بوسع المرء أن يفكر طويلًا بغية الوصول إلى نتيجة مُرضية بخصوص محنة العراق. لكن سيدور ويتقلّب في ذهنه كما الأفعوانية، وعندها سيقف عند عتبة صلبة وغير قابلة للكسر في الوقت الراهن على الأقل. أعني هنا بالضبط طبيعة السلطة التي تتجاوز كل الأشكال النمطية للسلطة السياسية التي عهدناها، وهذا ما علَّمَنا إيّاه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. إنها تتجاوز كل النظريات التي درجت ذاكرتنا عليها، وننظر لها دومًا من منظور فوقي، في حين أنها تنتشر في أكثر الأشكال هامشية، وتتوغل جذريًا وبشكل واسع في العلاقات التحتية. المهم في الأمر ليس المقصود هنا الغوص في مقدمة تفصيلية عن طبيعة السلطة، وإنما نأتي من النتيجة مباشرة، وهذه الأخيرة تضعنا على حقيقة السلطة في المجتمع العراقي وهي موّزعة بطريقة اعتمادية، بحيث كل شكل من السلطة يحيلنا إلى الشكل الآخر. وبتعبير أدق: بين هذه السلطات علاقات اعتماد وتبادل، وكل منهما يخدم الآخر، مثلما يخدم القرين قرينه.

 ثمّة عناصر جوهرية تشكّل لحم العراقيين وسداهم، أي أنها تشكل ذاكر مهيمنة وإطار حاكم على مجمل طرق تفكيرنا وسلوكنا. إنها بنىً تحتية تتمثل  بعلاقات قرابية متينة تستمد أصولها من حاضنة ومناخ قبلي وطائفي، ثم تتجه لأعلى الهرم لتجد نفسها محاطة بسلطة ريعية تتخذ من المركزية هوية لها. هذه العناصر الجوهرية في الثقافة العراقية تفرز لنا منظومة الأفكار تشكّل سلطة إكراه وتحدد ما هو المقبول وما هو المذموم. "إنها الشريعة الاجتماعية المقدّسة" المسؤولة عن اللوائح  ذات الأوامر الإرشادية، والموجّه المراقب الأساسي للكيفيات التي يتفاعل بها الناس مع المجتمع. فلنأخذ مثالًا قريبًا على مدى فاعلية هذه السلطة (التي اجتمعت فيها عناصر قد لا تكون متوفرة بكثرة وبهذا التشابه والقوة في باقي المجتمعات، وأعني بها القبيلة - الطائفة - الريع). وهو المثال الذي طالما اعتبرناه مادة تحليلية تفصح لنا عن اللوائح الإرشادية ومحرّماتها؛ إنها تشرّع المعايير وقواعد السلوك. ومثالنا هو الحراك الاجتماعي المطالب بالتغيير؛ فهذا الحراك رغم فقر أدواته السياسية وحداثة تجربته السياسية، إلّا أنه تعرض لعملية تصفية كبيرة من قبل السلطة وأتباعها. واصطدم بكل أشكال التخوين واللعنات. ولم تدّخر السلطة وسعًا في حربها الإعلامية الضروس ضد هذا الحراك. وقد ابتَدَعتْ المبررات الكاملة في هذه الحرب لكي تبدو عمليات النبذ والإقصاء مقبولةً اجتماعيًا وتجري طبقًا للشريعة الاجتماعية المقدّسة. فكل ما قامت به تقرّه اللوائح والقوانين التي تنصُّ عليها القيم السائدة في المجتمع العراقي. فهذا ضمان كافٍ للإمضاء والقبول من قبل الناس.

قد يحلو لنا تحليل الموقف من زاوية سياسية كلاسيكية، ونقول -على سبيل المثال- أن السلطة السياسية، بمنظورها الكلاسيكي المُتعارف، أي المؤسسة الحاكمة، أشرفت على تفتيت الحراك الاجتماعي، لأنها أحست بالخطر الوشيك يداهمها، فقامت بتشغيل آلياتها القمعية المعهودة، كأيّ سلطة حين تستشعر قوة المعارضة وحجم اتساعها، فتعمد على احتواء الموقف بطرق متعددة، وآخرها العنف، لكنّ هذا الأخير مستباح في مشرقنا العربي وتبيحه اللوائح الإرشادية والسلوكية في المجتمع العراقي. المهم في الأمر، أننا ننسى جبروت السلطة الأصلية والأساسية، وننشغل بالمؤسسة السياسية الكلاسيكية. ننسى سلطة القبيلة-الطائفة الريع، بل نسلب كل هذه العناصر ونجرد مفهوم السلطة منها، لتغدو هذه الأخيرة عبارة عن حكومة متنفّذة تتواجد في بناية رسمية (سلطة الريع). السلطة الرسمية هي سلطة مشرفة على إدارة الريع، لكنّها لا تملك الهيمنة الكاملة على سلطة القبيلة وسلطة الطائفة، وربما العكس هو الصحيح.  

لقد وقفت سلطة القبيلة -الطائفة- الريع بشكل تضامني لا يدعو للاستغراب لتقمع هذا الحراك، إنّها فتشت في سجلّها الاجتماعي ولوائحها الإرشادية فلم تعثر على مشروعية لهذا الحراك! إنه يدعو لدولة مؤسسات، ومواطنة، وحرية، وعدالة، وهذه البنود ليست متوفرة في لوائح هذه السلطة على الإطلاق. فمن العسير للغاية إحداث فوارق سياسية كبيرة في ظل هيمنة هذه السلطة، لأنها في تضامن حميم مع عناصرها حد التوحد، ولا تجد ثمة نفور أو تناقض مع هذه العناصر. على العكس من ذلك هنالك توليف بينها، ويصعب الفصل للغاية بين هذه العناصر. إن ذرة الماء هي مجموع عناصرها المكوّنة، كذلك السلطة في العراق هي مجموع هذه العناصر المذكورة. حينما ترى سياسيًا في البرلمان، فأعلم أنه التجلي الأوضح للقبيلة - الطائفة - الريع. فإذا أردنا أن نحلل واقعنا العراقي، وبلا أحلام يقظة، فستكون هذه السلطة هي المادة التحليلية الرئيسية لفهم الواقع العراقي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العراقيون بين الجوهر والمظهر

حرب الكل ضد الكل