المواطنون العرب محكومون غالبًا بأنظمة سلطوية ومحاطون دائما بها. بعض الحزبيين يدينون انتهاك حقوق الإنسان فقط إذا كانت الضحية من "معسكرهم" أو إذا كان النظام الفاعل خصمًا سياسيًا. أحيانًا يقع الضحايا أيضًا في هذا اللبس. هذا الموقف غير المبدئي من حقوق المواطن يعيق نشوء تيار ديمقراطي عربي. عزمي بشارة، من صفحته الشخصية على الفيسبوك.
أضحت مفاهيم الحرية، والتعددية، والاختلاف، للديانة الشعبوية، نصًا مفرغًا من محتواه
أصبحت مفاهيم مثل الحرية والتعددية والاختلاف بضاعة لا تختلف من حيث استعمالها عن الإكسسوارات الرخيصة؛ فهي تبيح لك استعمالها في لحظات الحاجة أو الضرورة. الحاجة والضرورة إلى التميز والظهور بمظهر المختلف. أو إنها لا تختلف كثيرًا عن العلكة، نمضغها عند الحاجة، ومن ثم تنتهي صلاحيتها. أو إنها "أشياء" مُعَدَّة للاستعمال الظرفي، حالها حال السكاكين، والبلطات، والعصي، والأسلحة النارية، ستكون حاجتها محصورة للمهمات القتالية. أيًا كان التوصيف فهو لا يخرج عن هذا المعنى: حضور الشكل وغياب المضمون. المتدين يطالب بالحرية وحقوق الإنسان، ويتندّر على الآخرين كونهم يتعاطون مع هذه المفاهيم بطريقة ازدواجية. وهي طريقة سجالية يستخدمها المتدين للدفاع عن عقيدته لا إيمانًا بالحرية والتعددية وغيرها. وأينما تولّي وجهك ستظهر لك تجليات ذلك الجوهر الذي سنأتي على ذكره، بمعنى أن عموم العراقيين يدينون لهذا الجوهر سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. إن عموم العراقيين هم مدنيين وتحرريين بالمظهر، غير أنهم ينتمون إلى تلك الآلهة العزيزة على قلوبهم بالجوهر.
اقرأ/ي أيضًا: حفلات تنكّرية
المشكلة لا تتوقف عند المتدينين فحسب بل تشمل سياقًا ثقافيًا بأكمله يمتلك القدرة على توليد الاستبداد. لأنه، كما ذكرنا سابقًا، لم يحدث قطيعة مع ماضيه المؤلم. لذلك لا زالت قيم المذهبية والقبلية هي من تشكّل شخصية الفرد العراقي. الكثير ممّن يحلو لهم تعريف أنفسهم خارج منظومة الدين لم يتحرروا عمومًا من "اللاوعي القبلي" إن صح التعبير والاستخدام؛ ذلك أن اللاوعي القبلي يقع بمنزلة "الجوهر"، وما سياقنا الثقافي إلا أعراض لهذا الجوهر. فلنتكلم بلغة سبينوزا: إن الطبيعة الطابعة هي القبلية، والطبيعة المطبوعة هو المجتمع؛ فالثاني أعراض للأول. لذلك لا نستغرب من هذه الديانة الشعبوية (التي تضم مختلف صنوف المجتمع ولا ينجو منها الكثير) التي نرى تجلياتها في كثير من الأحداث السياسية المهمة، فينتهي أمرنا إلى شقاق. مؤكد أن لعنف السلطة دور جوهري في فشلنا المستمر، لكن أتحدث عن الشقاق الداخلي، وعن إفراغ المفاهيم المهمة من معانيها. قد يقال أن السبب هو حداثة التجربة، لكن لدينا تجربة قريبة ("الحراك المدني" مثلًا)، أثبتت لنا أن اللاوعي العشائري يلعب دورًا مهمًا في تكوين وجهات نظرنا وتحديد سلوكياتنا. كما إننا لم نأخذ العبرة ولم نتدارك أخطائنا رغم القرب الزماني لهذا الفشل، ورغم تندرنا سابقًا على "المدنيين". نحن، في الحقيقة، أعضاء في ديانة شعبوية، لكن يحلو لنا تمييز أنفسنا بمفاهيم فارغة من محتواها تمامًا.
أضحت مفاهيم الحرية، والتعددية، والاختلاف، للديانة الشعبوية، نصًا مفرغًا من محتواه. ذلك أن التهور، والوقاحة، والصلف، وكل غرائز الانحطاط، لا تتقاطع، بحسب هؤلاء، مع المفاهيم أعلاه. يكفي أنك تهذي بالحرية وملحقاتها لتكون مميزًا. لكن ما الشيء الذي نعتبره أساس التميز عند أرباب الديانة الشعبوية الجديدة؟ لا أحد يدري على وجه الدقة. ما نعرفه على وجه العموم، إن الشعبويين يمتلكون قدرات خارقة على إسقاط أي مشروع نبيل بزمن قياسي. إن ما تكابده السلطة، إثر المعارضة المنظمة، وتحسب له ألف حساب، وتستخدم العديد من الطرق الملتوية لإسكاته، يستطيع الشعبويون تدميره في وقت قياسي. لذلك لا نستغرب من فشل الحراكات كما لو أنها "شقشقة هدرت ثم قرّت". ولا نستغرب كذلك من عدم تصحيح المسار والنظر في الأخطاء: إنها فوضى عارمة تنتهي دومًا بفشل واسع لا ينتج لنا سوى الإحباط والعدمية السياسية.
فلنأخذ هذه التجربة المريرة: في كل مرة، وعلى إثر الحماس السياسي، نحذر من سطوة وهيمنة التنظيمات السياسية، وحاضنتها الشعبية، وإنه لا يمكن مجابهتها إلا من حيث كونها خصمًا سياسيًا (وليس عشائريًا!)، وأنه لابد من تنظيمات سياسية موازية تنافسهم، تأتي الأجوبة، المعلومة سلفًا، بهذه الطريقة المألوفة: أنتم تجاملون!.. بمعنى آخر: كل من يحذرنا من فرط المبالغة في تقدير الذات، وفهم الواقع، فهو مجامل. ومن خلال النظر إلى طبيعة الردود هذه ستعلم فورًا مع أي طبيعة بشرية تتكلم. الأمر بالنسبة لي لا يخرج عن هذه القضية: نحن أعراض وتقلبات لهذا الجوهر: القبيلة. لذلك لا نستغرب الهجمات البربرية على كل من يحاول تنظيم الصفوف. لماذا يغدو بعض العراقيين عدائيين للغاية حينما يتم تذكيرهم بضرورة العمل السياسي المنظم؟ لأنهم لا يريدونك أن تفسد متعتهم، كما أنهم لا يريدون لأحد أن "يشيخ عليهم" (وباللهجة العراقية الدارجة، تعني يتأمّر عليهم). فكل من يذكّرهم بخطورة العمل السياسي أمام جبابرة السلطة السياسية، يغدو مجاملاً في نظر تهم القبلية.
لكن وبعد أن تثبت الوقائع كل هذا الكلام (قوة الخصم السياسي، وعدم الاستهانة به، وضرورة التنظيم..) تسود حالة من الصمت المطبق؛ صمت لا يأتي من حالة تأمل بما حدث، ومحاولة فهمه، وعدم تكراره لاحٌقا، بل تهيئة قادمة لتكرار ذات الأحداث!.. خلاصة الأمر، كل الوقائع تشير إلى هذه الحقيقة: إن الوجود القبلي وجود أصيل، وما عداه وجود مزيّف، فنحن نتصرّف، بهذا الوجود الأصيل حتى لو لم نعترف به بصورة مباشرة، فسيظهر لنا بصورة لا وعي: إنه اللاوعي القبلي. جوهرنا قبلي ومظهرنا مدني.
اقرأ/ي أيضًا: