أكثر من واحد يصادق على هذه القضية: إن البعض من روّاد الواقع الافتراضي لا يبدون كما هم في الواقع الفعلي، أي لا يوجد تطابق بين شخصياتهم الواقعية والافتراضية. ما نراه قبيحًا، وشرسًا، ومتنمّرًا في الواقع الافتراضي، يبدو لطيفًا، وخجولًا ومتواضعًا، في العالم الواقعي. أين نعثر على الشخصية الحقيقة؟ من قال إن هذه الشخصية المتهورة، والمتنمّرة، لم تكن شخصية حقيقية في الواقع الافتراضي؟ ماذا لو اتضح لنا أن تحليلاتنا لا تلامس سوى سطح الأشياء؟ من زاوية أخرى: هل كان فكرنا محقًا حين أطلق أحكامه على هذا الشخص أو ذاك من خلال العالم الافتراضي، أم أنه لا يقيم وزنًا لهذه الأحكام إلا من حيث كونها مرتبطة بالوقائع الخارجية المعاشة وأعني بها واقعنا الحقيقي، فتبين له لاحقًا أن سلوك الشخص المحكوم عليه يناقض أحكامنا التي أطلقناها في السابق؟ لماذا نعطي أولوية لصواب الأحكام حين تكون عبر الواقع الحقيقي في حين نمنحها صفة هامشية في العالم الافتراضي؟
العالم الافتراضي تختفي فيه الشخصية الحقيقية ولا يظهر منها سوى صورة غامضة ترتدي عدّة شخصيات
ثمّة إشكالية مهمة ترتبط بالمعنى السائد للحقيقة، وهي دلالة المطابقة؛ مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان، مطابقة الموضوع للمحمول، وإذا تطابق الموضوع والمحمول، فبحكم هذه العلاقة تنشأ الهوية، فيغدو الشيء هو هو وليس غيره. هذا ما يحدث في الواقع الافتراضي: فلان متنمّر، فلان قليل الحياء، فلان متهوّر.. إلخ غير أن الواقع يخبرنا عكس ذلك تمامًا: فلان طيّب، فلان خجول، فلان هادئ ووقور. إن الموضوع -وهو الشخصية الفيسبوكية- لم يطابق أحكامنا الذهنية، أي أن العلاقة منفرطة بين الذات والموضوع، لقد اكتشفنا زيف الهوية وقناعها المخادع أثناء التجربة واللقاء. على هذا المنوال يجري تقييم الحقائق من خلال دلالة المطابقة سالفة الذكر. أن سعينا وراء المطابقة، مطابقة الفكر لموضوعاته، يسقطنا في دائرة تقمّص دور الآلهة، ذلك أن الثيولوجيا تنظر للحقيقة على أنها مطابقة لوجود الله. معظمنا يأخذ دور الإله في إطلاق الأحكام: إن هذا الكائن مطابق لأحكامي، فما تصورته في ذهني جاء مطابقًا في الواقع، وسواء التقيت به أم لا، يكفي إني أطلقت الأحكام. وينبغي التنويه، أن إطلاق الأحكام يتساوى من حيث السلبية سواء كان في الواقع الافتراضي أو غيره. يمكن القول إن التحليل المتأني سيظهر لنا حقيقة هذا الشخص المتقنّع بالفضاء الرقمي والواقع الفعلي؛ كلاهما يشكلان خصائصَ معينة للتشجيع على هذه الحفلات التنكرية التي نشهدها في العالَمَيَن.
اقرأ/ي أيضًا: "فيسبوك".. مرحبًا بك في أحلام اليقظة
ولكي يتم تجاوز هذه النظرة، المتحيزة لكلا العالمين، ستمنحني نظرتي المباشرة الحرية الكاملة للخروج من أحكامي المجحفة، لمقارنتها من الخارج مع الكائن الذي أشهده بدون توسط لهذه الأحكام. إن لقائنا بهذا الكائن، وبهذه الطريقة، ورؤيته والاتصال به بشكل مباشر، أي بدون توسط الأفكار، لهو اللقاء المباشر، سيضعنا في مواجهة شبه حقيقية، لكي نختبر صواب أحكامنا من عدمها. وقد حدث لي شخصيًا مثل هذه المواقف، حيث التقيت بالعديد من الشخصيات التي كان يفصلني عنها حجاب سميك في العالم الرقمي، فتبين لاحقًا مقدار الفارق بين أحكامي السابقة مقارنة بنظرتي الحالية؛ فالأولى مصدرها العالم الرقمي، والثانية تعتمد على اللقاء المباشر. بل تم تأسيس علاقات مهمة لا زالت مثمرة حتى كتابة هذه المقالة. لكن علينا ألا نغفل هذه الحقيقة، أن موضوعنا المركزي يتمحور حول طبيعة الشخصية الحقيقية وكيفية الوصول لها: عبر استنطاق الواقع الفعلي أم الافتراضي؟ أيهما يشكل فضاءً رحبًا لإطلاق العنان للشخصية الحقيقية من زاوية محددة، أعني بها الشخصية العدوانية والشخصية المسالمة؟
ربما يكون لقائي في الواقع بهذا الشخص أو ذاك هو ما يعطي لأحكامي الدقة في التصويب، أما العالم الافتراضي تختفي فيه الشخصية الحقيقية ولا يظهر منها سوى صورة غامضة ترتدي عدّة شخصيات. بهذا المعنى يغدو العالم الواقعي هو عالم "الماهيات الحقيقية"، أما العالم الرقمي هو عالم الصور الفاسدة والمشوهة، عالم "السيمولاكر" الذي لا يعكس الحقائق الأصلية، عالم الخداع والتضليل والاستعارات المخادعة. إنه الفضاء الذي تمارس فيه الذات رغباتها المكبوتة، وأمانيها المُتَخَيَلَة، فتنعكس على السطح شخصيات جنونية، بحيث لو التقينا بإحدى هذه الشخصيات في الواقع الفعلي سنتحيّر في الأحكام حول أي من هاتين الشخصيتين تمثّل صاحبها بحق؟ نرى شخصيات ثورية، و"كتّاب" مأسورين بموضة ما يسمّى بـ"نقد المثقف"، ومسرحيات مطولة ومملّة عن ضرورة التغيير، وفتيات يحلمن بحقوق المساواة، وشخصيات تبحث عن تقدير، وعطش محموم لاستجداء الإعجاب، وحفلات مجانية لجلد الذات، والكثير من هذه الظواهر النفسية التي تنعكس بجلاء في هذا العالم الافتراضي.
لكن الواقع لا يقل فسادًا من حيث كونه حفلة تنكرية كبيرة مليئة بالزيف والخداع والرياء، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بإماطة اللثام عن شخصياتنا الحقيقية! في البيت، والشارع، في العمل الرسمي، وفي المقهى، مع الأصدقاء، والعابرين، ثمة شخصيات عدّة. وبالكاد نعثر على شخصيتنا الحقيقية، فنحن بارعون بتقمّص الأدوار المرغوبة والمٌحَبَبَة لدى الآخرين، حيث يجري التنازل عن شخصياتنا الحقيقية من أجل كسب الرضى والقبول الاجتماعي. إنها محاولات قسرية على الذات لاستبعاد النماذج غير المرغوبة في المجتمع كآلية دفاعية للحفاظ على الوجود: التضحية بجزء من الرغبات مقابل تجنّب النبذ الاجتماعي. من هنا تكثر في مجتمعاتنا ظاهرة الغموض والتخفي، إذ من النادر أن نعثر على فضاء اجتماعي يسمح للمكاشفة مع الذات والآخرين. تبدو العلاقات الاجتماعية في سياقنا الاجتماعي عمومًا أشبه بالطقوس السرية، لا تمنحنا الحرية الكاملة للتصالح مع الذات والآخر بشكل صحي.
ثمة مكيدة تغيب على من يجعل اللقاء المباشر معيارًا للتثبّت من حقيقة هذه الشخصية أو تلك؛ فبعض الأشخاص الذين التقينا بهم لا يفصحون بالعادة عن رغباتهم الدفينة، إنّهم يتسترون بحجاب الواقع الفعلي لو تعلّق الأمر بكشف عدوانيتهم، وتنمرهم، وضغائنهم، فتجري عملية تصفية حساب كبيرة ومؤلمة في الواقع الافتراضي تقوم بها هذه الشخصيات العدوانية تجاه الآخرين تحت غطاء سميك من الشرعية، كأن يكون الدفاع عن القضايا الإنسانية أو من هذا القبيل. هذا الشخص الخجول، والمسالم، قد لا يكون حقيقته، بل صيغة مستعارة تتماشى مع السائد وتتخذ من الآداب العامة غطاءً لحقيقتها الفعلية. الحقيقة الفعلية هي الشر الكامن في أعماقها. إنها تبحث عن أفقها الخاص لتظهر صفاتها بجلاء. فالواقع الفعلي هنا ليس معيارًا كافيًا للتأكد من بعض الأشخاص الطيبين. إن عالم الإغراء التي تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي يدفع بكل إمكانياته القصوى ليغازل الرغبات المكبوتة والشخصيات المغمورة لتكشف عن أقنعتها الملونة. حفلات واسعة النطاق نعثر عليها في الواقع الافتراضي والواقع الفعلي على حد سواء، غير أن الواقع الافتراضي يتفوق بنقطة مهمة وجديرة بالملاحظة: إنه يفضح المستور في أعماقنا، ويضعف مقاومتنا أمام هذا الأغراء الكبير، فنظهر على حقيقتنا التي لم ترَ النور في الواقع الفعلي. وفي ظل علاقات اجتماعية ليست المرونة والمكاشفة أحد صفاتها الجوهرية، تكثر الإحالات إلى عوالم افتراضية تمنح الذات بعض الحرية للإعلان عن نفسها ببعض الوضوح من وجوه معينة.
من النادر أن نعثر على فضاء اجتماعي يسمح للمكاشفة مع الذات والآخرين
إن العالم الافتراضي هو حفلة تنكرية من وجه، وحقيقية من وجه آخر؛ تنكرية لأنها تدفعنا بإغرائها للإفراط بتقدير الذات حد الهلوسة، وحقيقية لأنها تستنطق هذه العدوانية الخطيرة المقيدة بأغلال الخوف من الواقع الفعلي وردوده الصارمة. وإلّا ما الحكمة من إظهار عدوانيتي في العالم الافتراضي لولا البحث عن تعويض ما، لماذا أبدو عدوانيًا وشرسًا لولا الشعور بالخوف والجبن من الآخرين المتربصين بي؟ لو كنت شخصية سوية بحق لما احتجت أن أتغول في هذا الفضاء الرقمي، لكن هذا الأخير جاء بفضيحتنا، ويلهمنا تجربة غاية بالعمق مفادها: إن غرائز الانحطاط لو وجدت البيئة المناسبة لنموها ستثمر بدون أدنى شك، وهذا ما تلمّسناه في العالم الافتراضي. والآن فكّر في هذا الشخص المتنمّر والعدواني والفضائحي: ما المعيار الحقيقي للتعرف إليه؟ في الواقع الفعلي، أم الواقع الافتراضي؟ قبل أن تجيب عن هذا السؤال ربما من المستحسن أن تستحضر عدد الشخصيات المتنمرة والعدوانية والفضائحية التي تعرفها في العالم الافتراضي، وصدف أن قابلتها في العالم الفعلي. أي الشخصيتين تمثل قناعًا لصاحبها؟ دع الحقيقة تكشف عن نفسها بلا توسط، بلا تمثل، بلا تطابق بين الذات والموضوع، بلا أحكام مسبقة؛ الفضاء الافتراضي هو الأفق الذي يظهر فيه جزء من القبح البشري المستور.
اقرأ/ي أيضًا: