13-مايو-2021

ثمّة انتقال رمزي لما يسمّى بالعقل الجمعي من الواقع إلى الافتراض (فيسبوك)

بعد عقد من الحياة التالفة، أستطيع بلورة فضول 2011 بصياغة هذا السؤال: كيف تمكّنت هذه الملايين التي تحتلّ الميادين أن تنتقل عمليًّا من الفضاء الافتراضي إلى الواقع؟ كان هذا الفضول هو مناسبة تعرّفي على الفضاء الذي ساهم باندلاع الثورةالمصرية في 25 يناير 2011. منذُ ذلك الحين وصفحتي الشخصيّة هي ذاتها، باسمي وصورتي ومعلوماتي. لست في وارد تقييمه، ولا حتّى مدحه أو قدحه. تجربتي معه تبقى في محيط شخصي، وانطباعي عنه يخصّني بالمحصّلة. والحال هذه، مع مواقع التواصل الأخرى.

عزّزت مواقع التواصل من صراع الهويات وخلقت هويات متفرّعة عن هوياتنا المشروخة أساسًا

الصفحة الشخصيّة في "فيسبوك"، دفتر مذكّرات وسجلّ وقائع. أرشيف أيّامنا ومنبّه ذكرياتنا. دفتر تتاح قراءته للجميع، لا حميميّة فيه ولا سريّة! شاهد على تطوّر شخصياتنا، وتغيير قناعاتنا وقيمنا. وشاهد أيضًا على نكوصنا وسخافاتنا. تجرفنا موجاته بهدوء ننسى معه أحيانًا ما الخصوصيّة التي بدأت تتآكل مع تعدّد المواقع، وتفقد حدودها مع الشهرة. تتحوّل فيه المشاعر والعواطف والقناعات إلى قوالب جاهزة، نتعامل معها بأقنعة أيديولوجيّة غالبًا. 

اقرأ/ي أيضًا: "فيسبوك".. مرحبًا بك في أحلام اليقظة

حاولت مرّةً تجربة شعور أن تكتب وتتفاعل مع الآخرين عبر صفحة وهميّة، بهوية مستعارة، لأيّام أتصفّح من خلالها ولكن بلاتفاعل! ثمّة ما يمنعني عن المشاركة بهذه اللعبة، ثمّ حسمت أمري وحذفت الصفحة مع ندمٍ برّرته بدافع التجربة!

الشرخ النفسي الذي شعرت به داخلي، خلال التصفّح عبر هوية مستعارة؛ مسّ الصدق مع الذات بالأساس، صدع هوياتي مدوّخ. انشطار للذات عبر هويات جاهزة لأن يتقمّص المرء شخصيّاتها، تشوّه صادم. والحال كذلك مع مواقع التواصل الأخرى. لكلّ موقع سمات وملامح ومزاج وخصائص ونمط ينفرد به. عزّزت مواقع التواصل من صراع الهويات، وخلقت هويات متفرّعة عن هوياتنا المشروخة أساسًا، بإمكانك إعادة إنتاج حقيقتك الذاتية مع تضخّم مخيف للذات. تقمّص الشخصيّة ورحّب بالمعجبين بهويتك الجديدة.

في "فيسبوك"، نوعًا من الجديّة كونه يعالج مواضيع ترتبط بواقعنا غالبًا، ويناقش مشاكله. التفاعل عبره افتراضيًّا يخفّف من تأنيب الضمير تجاه مسؤولياتنا الأخلاقيّة. والحال هذه، فهو يناسب نمط البطء في حياتنا. يتناغم مع فراغنا، ويبدّد الوقت، وينتزعنا من شعور البطالة.

يتمايز تويتر عن "فيسبوك"، بخطابه الرسمي ورسائله العاجلة. طبيعته تناسب نمط الحياة السريعة المرتبطة بأهميّة الوقت. محدّد بعددٍ من الحروف لتختزل فكرتك بلباقة. كم تستغرق التغريدة من الوقت؟ أمّا في انستغرام، فتجربتي به فقيرة كمتفاعل، بيد أنّه عالم جذّاب يناسب نوعًا ما اللامبالاة. يلبّي رغبات جمهور المشاهير، وتتبّع حياتهم الشخصيّة بأسلوب فظّ، باختصار: موقع فرجة في جزيرة منعزلة.

كلوب هاوس. التطبيق المدشّن حديثًا، لم أجرّبه ولن. حين قرأت عن المزية الجديدة لهذا التطبيق قلت لنفسي: تجتهد آلهة الرأسماليّة المتوحشة بخلق فضاءات جديدة للعزل. قد يكون هذا الحكم جائرًا بحقّه، لكنّه فعلاً يأتي بنسق لا يختلف عن سياقات مواقع التواصل الأُخرى. ولا أدري ما مزايا الجذب التي ستأتي بها الفضاءات الجديدة لآلهة الرأسماليّة المتوحشة، لكنّها حتمًا لن تخرج على سياق الغيتوات. 

 ثمّة تنشئة اجتماعية تتمّ بوساطة التكنولوجيا، تصطدم بالهويّة النرجسيّة للإنسان. جمهور تتغيّر مصادر تغذيته البصريّة والسمعيّة مع إيقاع التطوّر. من السينما والمسرح اللذان تحوّل جمهورهما بالتدريج للتلفاز. ثمّ، قفز اليوتيوب لتلبية رغبة الزبون بما لذّ وطاب، ليكتسح الهاتف النقّال التلفاز ويقصي شاشته بشاشة توفّر أقصى سبل الراحة والمتعة للمستهلك.

 

ثمّة انتقال رمزي لما يسمّى بالعقل الجمعي من الواقع إلى الافتراض. التفكير عبر ما تقترحه المواقع من أنماطٍ فكريّة وصور ذهنيّة تحجّر الخيال

 وسيلة تستبدل بوسيلة تتماشى مع أنماط السرعة في العالم الرأسمالي. وثمّ، سيادة مواقع التواصل الاجتماعي، التي استحوذت على معظم ميكانيزمات التلاعب بالوعي. فرّغته من الإدراك بقلعه من واقعه، ومسخ أولويّاته. شتّتت تركيزه بتضييع أناه الفيزيقي، وقدّمت له فرصة هروب من عالم فعلي مُحبط. فضاءات تسمح بتغيير الهوية الذاتية الموروثة، وتعتنق قيم روح العصر. نتجاوز حدود الهوية، وكلّ حدًّ آخر، بالعيش بهوية افتراضيّة، بإمكاننا تغييرها لو رغبنا. نخترع ذواتنا بهويات مرقّعة،متعدّدة، بديلة، والأهم من ذلك؛ أنها هويات جاهزة، لا تحمل إرثًا ولا ذاكرة وبلا جذر!

اقرأ/ي أيضًا: "كلوب هاوس" بئر الأصوات

ثمّة انتقال رمزي لما يسمّى بالعقل الجمعي من الواقع إلى الافتراض. التفكير عبر ما تقترحه المواقع من أنماطٍ فكريّة وصورذهنيّة تحجّر الخيال، وتغذّي الوهم؛ يصعب معها أن ننتج أفكارًا خاصّة. يندر التفكير الخاصّ مع غياب التخيّل الذاتي الذي يخسر أمام المتخيّل المكتسب من الخيالات المقترحة، ثمّة شكل من أشكال التعويض النفسي توفّره مواقع التواصل، يعمل كبديل لواقع معاش. أن تعيش في البديل، أن تفكّر عبره؛ خسارة لقيمة الأنا.

عدّة محاولات جادّة للإقلاع عن التدخين؛ ومعها لا أعتقد بأنّي مدمن، ولكن جميع المحاولات أخفقت بعد الصمود لأيّام! الغطس بهذه المواقع؛ إدمان، وله مضار تفوق مضار التدخين التي يعرفها أيّ مدخّن ترك التدخين لفترة، وعاد متعطّشًا لسمومها!

قد نكذّب الخبر الآتي لو قرأناه قبل قرن من الآن بذهول: بين شروق الشمس وغروبها؛ الحضارة الفلانيّة - النظام العلّاني تـ/يـنهار! لكنّ اليوم مثل هذا الخبر الصادم لا يحتاج كثيرًا من النباهة والدهشة لندرك أنّ الخوارزميّات تتحكّم بعقل العالم الجديد. وأنّ العقل البشري يقف مذهولًا أمام الحواسيب التي تتلاعب بالبورصات العالميّة بأجزاء من الثانية، وبهذا المستوى من الإدراك هل نندهش لو شُرِّحت حياتنا العالقة بخيوط الشبكة العنكبوتيّة. 

وتلك حكايةٌ أُخرى.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن عالمنا الموازي الجديد.. فيسبوك!

على منصات مواقع التواصل الاجتماعي: حياتي للبيع!!