مشكلتنا تدعو الى الحيرة: حتى انتقادنا لأي ظاهرة يأخذ شكلًا عدائيًا. ظاهرة الاستبداد تتفشى في ذهنية الفرد العراقي، فهو لا يطيق فكرة الاختلاف، ويحلو له التغني بها لكنّه يجردها من كل مضمون في ممارسته اليومية. لا تتغير سوى الأشكال التعبيرية والمضمون واحد، وهو سريان روح "الشيخ" في مجمل فعالياتنا الاجتماعية والسياسية. وليس غريبًا أن نشهد نزاعات ذات طابع عشائري داخل قبة البرلمان، بل ليس مفاجئًا على الإطلاق أن يتبادل بعض النواب التهديدات العشائرية فيما بينهما، فالبرلمان يتمثّله بعض هؤلاء على شكل مضيف عشائري وليس مؤسسة تشريعية.
طوال تاريخهم السياسي لم يعرف العراقيون تداولًا سلميًا للسلطة بل أصبح هذا الأخير استثناء في تاريخنا السياسي
أينما نذهب ترافقنا روح الاستبداد وسرعان ما تفضحنا سلوكياتنا. وفي مجتمع تقليدي ذو بنية اجتماعية قبلية لا يبدو هذا الأمر غريبًا، لا سيما أن عقود التنشئة السياسية التي ترعرعت من خلالها أجيال كثيرة، هي عقود مليئة بالدم والدموع التي كانت تترجمها المشانق والانقلابات، وتشرّبتها الأجيال السابقة واللاحقة على أنها ظاهرة طبيعية في عالم السياسية، ومن ثم لا نستغرب من تلك الادعاءات التي تحاول البرهنة على "واقعية" الاستبداد مقارنة بـ"مثالية" الديمقراطية. وطوال تاريخهم السياسي لم يعرف العراقيون تداولًا سلميًا للسلطة، بل أصبح هذا الأخير استثناء في تاريخنا السياسي. الأمر ليس غريبًا بالمرّة على مجتمع نضجت ذاكرته على "ثقافة الجثث المُعلقة" بتعبير الراحل هادي العلوي. حتى أن عموم العراقيين حين يعبرون عن نفورهم من السياسيين يتمنون لو يتم تعليقهم بالمشانق. بل يذكر هادي العلوي في كتابه "المرئي واللا مرئي في الأدب والسياسة" وبالتحديد في مقالته المعنونة "ثقافة الجث المعلقة" أن عموم جيله كانوا يتفرجون على المشانق كما لو أنّها أمر طبيعي ولم يعترض أي منهم في تلك اللحظات على هذه الأعمال الوحشية.
إن الصفة الوحيدة التي تفوقنا بها هي أننا أعداء لبعضنا ولدينا قدرة فضيعة على صنع العداوات. ومنها ذلك الانقسام الحاد بين فئات تعنون نفسها عادة بمفاهيم مثل "العَلمانية" و"الليبرالية"، وكل شيء مرتبط بالحداثة السياسية، لكن حديث "فيسبوك" يمحوه النهار! والواقع أشد أنباء من كل الادعاءات؛ ولمجرد أن تكون خارج السياج الدوغمائي لتلك الكتل الشعبوية فأنت خائن ومارق، ويجري تصنيفك وتسقيطك وربطك بالمشنقة الرمزية، ويتم عزلك من قبل الوحوش المستبدة.
المسميات البراقة لا تعصمنا من بربريتنا على الإطلاق، ولبس السراويل المزركشة لا يغطي على دوافعنا التي تفضحها أبسط الممارسات. هذا التمايز الشكلي والفضفاض لا يكفي لصنع نخبة ديمقراطية حقيقية تؤمن بالحريات المدنية والتداول السلمي للسلطة، والخطوة الأولى للممارسة السياسية أن نتداول الديمقراطية فيما بيننا باعتبارنا، أولًا، جماهير تؤمن بالعمل الديمقراطي، وباعتبارنا، ثانيًا، تنظيمات ناشئة. وبالخصوص التنظيمات التي تحمل اسم تشرين، ذلك أن المناكدة عمرها قصير للغاية لو كانوا يعلمون.
ليست مشكلتنا في عدم وجود جماهير تدعو للعَلمانية فهؤلاء متوفرون بكثرة. مشكلتنا الحقيقية تكمن بالذات في غياب النخبة الحقيقية التي تمتلك الرؤية والمشروع. كسب الرأي العام مشقة ومعاناة طويلة، وستجابه بالتشكيك والتهكم والتخوين. من الضروري أن يتحلى كل من يؤمن بالديمقراطية والليبرالية والمواطنة بتحسين خطابه، ليعكس متبنياته ويبتعد عن التهكم والسخرية وروح الاستبداد، لكي يستطيع إقناع جمهوره بنبل مساعيه وصدق نموذجه. ومن لا ينظر إلى هذه الأمور بجدية فسيعطي مبررًا منطقيًا لخصوم الديمقراطية بالضحك والمسخرة على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وسيكون شعارهم (أهذه ديمقراطيتكم؟!) فهنالك خيط رفيع بين صاحب المشروع وعدمه وهو نوعية الخطاب الذي يتمناه. لكننا حتى هذه اللحظة لم نفلت من قبضة الاستبداد، ويصعب علينا التعلم على الحوار الجاد والموضوعي والبناء، وما دامت لدينا مدونات شخصية في العالم الافتراضي فليكن الاستبداد قائدنا!