24-مايو-2021

محنة يبقى فيها القاتل طليق اليد ويحجب الدم فيها آفاق التغيير (فيسبوك)

حين ينزل الشباب غدًا إلى ساحات الاحتجاج، للمطالبة بالكشف عن قتلة الناشطين والمحتجين، سيكون قد مر على اغتيال إيهاب الوزني شهر بالتمام والكمال، وعلى اغتيال رهام يعقوب قرابة العام، وعلى اغتيال هادي مهدي أكثر من عشرة أعوام. وفي خضم هذا لم ينقطع السؤال عن القاتل. سؤال أقرب إلى اللغز، فهو على ألسنة الجميع وجوابه معروف للجميع، فالقاتل مشخص، لكنه مع ذلك يبقى مطلق اليد، يختار دم من يشاء وقت ما يشاء ليسفكه دون رادع!

واحدة من أسوأ التشوهات التي ورثناها من مرحلة الاستبداد، هي هشاشة مؤسسات الدولة وسهولة إخضاعها لنفوذ زعامات أو مراكز قوى معينة

المهم في كل هذا، أن موجات سابقة من الاحتجاج لم تدفع للكشف عن القتلة، بل أدت إلى زيادة قوائم المقتولين، فلماذا لا يثمر ضغط الشارع في دفع القوى السياسية للكشف عمن أوغل في دماء الأبرياء؟

اقرأ/ي أيضًا: تنظيم "سرّي" للاحتجاجات وتعدد الساحات.. هل تعود "تشرين" من بوابة أيار؟

إن جوهر كل أزمات النظام يكمن في طبيعة القوى السياسية المهيمنة. فهي، ببساطة، قوى تسلمت السلطة وليس في ذهنها أي تصور عن مشروع سياسي لإدارة مرحلة ما بعد الاستبداد، ولا تملك إلا أن تتقاسم تركة صدام حسين بوصف كل منها ممثلًا عن مكون من مكونات المجتمع، ومطالبًا بحقوق وظلامات تاريخية. ونتيجة لهذه الشحنة السياسية، تحولت هذه الهويات إلى ما يشبه الأيديولوجيات الفاشية التي ترى في الآخر خطرًا وجوديًا يجب إزالته. إن النتيجة المباشرة لهذه الحالة، هي انعدام إمكانية تنظيم المجال السياسي إلا عبر إسقاط فكرة العدو والصديق كصيغة تنظم علاقاتها مع بعضها. ولذا، فهي أمام أحد خيارين، أما الانزلاق نحو احتراب أهلي أو في أفضل الأحوال إلى صراع لأجل مصالح "إقطاعية" بدلًا من التنافس لأجل الصالح العام.

إن واحدة من أسوأ التشوهات التي ورثناها من مرحلة الاستبداد، هي هشاشة مؤسسات الدولة وسهولة إخضاعها لنفوذ زعامات أو مراكز قوى معينة. وحين تلتقي هذه الحالة مع قوى بالمواصفات التي ذكرناها، تنشأ ظاهرة الإقطاعيات السياسية، حيث تتحول كل مفاصل الدولة إلى دكاكين وواجهات تؤبد سلطة أمراء الطوائف.

من الصعب تخيل صدفة كونية تعيسة، أو أكثر تعاسة من أن تتزامن هذه الظروف والعوامل، مع تركز بؤرة الصراع العالمي في منطقتنا من جهة، ووصول قوى ذات بنية مسلحة إلى السلطة من جهة أخرى، وتظافرها مجتمعة في دولة ريعية يُوظف ريعها للأمساك بمقدرات الناس، وشراء ولاءات شرائح ليست قليلة منهم. بالنسبة لي على الأقل، لا يمكن تخيل وصفة للكارثة أكثر تدميرًا من هذه الوصفة، وإن كان هناك ثمة تعريف للمحنة، فهذا تعريفها الأدق؛ إذ تستعصي الحالة العراقية حتى على الفهم أحيانًا، فضلًا عن الحل، ولا يمكن حتى مقاربتها مع أي نموذج آخر. 

لا أعتقد أن القول بانعدام إمكانية إصلاح النظام يعكس وجهة نظر متشائمة، بقدر ما يعكس معطيات واقع يجلي حقيقة نظام بدائي تسلطي بامتياز؛ ذلك أنه لا يرتكز على سلطات مستقلة، ولا مؤسسات حديثة، ولا يمكن الحديث فيه عن تعددية سياسية، ولا معنى فيه لأي مبدأ من مبادئ الديمقراطية. إن كل ما يقدمه النظام عبارة عن أكسسوارات لتزيين جوهره الاستبدادي. الانتخابات، مثلًا، ليست أكثر من وسيلة اضطرارية لاكتساب الشرعية أمام المجتمع الدولي أولًا. وثانيًا، ولأن العملية السياسية لا تقوم على عقد سياسي بل على صفقات،  فإن مخرجات الانتخابات تعمل كمحدد وحيد لشكل الصفقات التي تنظم العلاقة مع بعضها بموجب متغيرات ميزان القوى، تشكل هذه العوامل صورة بانورامية مكثفة عن الوضع القائم وتؤشر على الملامح الأبرز للنظام حيث الفشل في التنمية الاقتصادية، والفشل في إنتاج خطاب وطني، وأيضًا العجز عن فتح الملفات الكبرى، بدءًا من سقوط أكثر من ثلث البلاد ومرورًا بتجزير 800 شاب في الشوارع، وليس انتهاءً عند استمرار مسلسل الاغتيالات إلى يوم الناس هذا. 

إذن، وقبالة هذه العوامل، تكون المفارقة الحقيقية فاستمرار الاحتجاج بآلياته الحالية لا يشكل بالضرورة ضغطًا على النظام، بل قد يكون العكس بالنظر إلى مدى قابلية الحاضنة الاجتماعية على الاستمرار في تأييد الحراك، خصوصًا إذا ما كانت منهكة بفعل شبه التوقف التام للحياة منذ عامين، مضافًا إلى الإحباط الذي أعقب أفول تشرين من جهة، ومن جهة ثانية، انعدام جدوى المشاركة في الانتخابات ومحاولة التغيير من داخل المنظومة، إذ تكون المشاركة هنا كالقفز إلى سفينة غارقة؛ ذلك أن شرعية النظام بدأت بالتآكل فعلًا، فزوال السلطة، يبدأ من لحظة زوال فكرة استمرارها، أو إمكانية إعادة إنتاجها، أو حتى التعايش معها، من إذهان الناس. ولذا، فالعاقل من يجهز البديل لا من يفاضل بين خياري المشاركة في الانتخابات والاحتجاج غير المنطلق من رؤية واقعية. 

القفز على اشتراطات الواقع مهما كانت النوايا نبيلة والجهود ضخمة لا يعدو كونه مراهقة سياسية قد تكرس معادلة المحنة في العراق

إن عملية إنتاج بديل سياسي أكبر وأكثر تعقيدًا من أن يتم اختزالها بإضفاء صفة قانونية على مجموعة ناشطين؛ فلا استحصال إجازة تأسيس حزب يعني أنك تطرح مشروع بديل سياسي حقيقي، ولا تناغمك مع مزاج الجمهور يعني استنادك إلى قاعدة اجتماعية متماسكة، فالانتقال للعمل السياسي لا يعني بالضرورة التقدم خطوة باتجاه للأمام، بل على العكس، قد تفضي هذه المحاولات إلى اجهاض فرصة ثمينة للتغيير. إن القفز على اشتراطات الواقع، مهما كانت النوايا نبيلة والجهود ضخمة، لا يعدو كونه مراهقة سياسية قد تكرس معادلة المحنة: انعدام فرص إصلاح النظام وارتفاع ثمن انهياره لانعدام البديل، محنة يبقى فيها القاتل طليق اليد ويحجب الدم فيها آفاق التغيير!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عام الامتحان.. هل "رسبت" حكومة الكاظمي؟

تشرين والانتخابات