09-أبريل-2022
نساء

تستعيد أم ياسر ذكريات زواج الفصلية الذي عاشته قبل 35 سنة (تعبيرية)

أم ياسر 55 عامًا – محافظة ذي قار جنوب العراق، تبتسم بحزن ممزوج بالرضا والفرح وتحدثنا بلهجتها الجنوبية "آنة وقفت الدم وأنقذت أخوتي الأربعة الباقين، لما تزوجت فصلية كان راح دمهم هدر واستمر أخذ الثآر بين عشيرتي وعشيرة زوجي".

زواج "الفصلية" عرف عشائري قديم يتم خلاله تزويج إحدى نساء العشيرة المعتدية إلى عشيرة الشخص المعتدى عليه أو أحد من أقربائه

تستعيد أم ياسر ذكريات زواج الفصلية الذي عاشته قبل 35 سنة، وتقول "ابن عمي دخل في شجار مع صاحب محل لبيع البقالة كان بجوار محله، على أثر ذلك الشجار اعتدى على شقيق زوجي الحالي. ضربه بأداة ثقيلة على الرأس ففارق الحياة. سمعت وقتها أن شجارًا كبيرًا حصل، كنت أبلغ من العمر 20 عامًا. ابن عمي لم تكن لديه أخوات بنات، جميعهن قد تزوجن، بعد أيام معدودة سمعت والدتي تشق ثوبها في وسط البيت وتصرخ وتلطم الخد، ما زلت أتذكر حالها وذلك المشهد بالرغم من مرور السنوات، كنت الابنة الوحيدة مع أربع أخوة ذكور ـ أخبرني أبي بنبرة حادة وحازمة، قال: بنتي أخذوج فصلية, وعشيرتنا وافقت، اذا ما انطيناهم مرة [امرأة]. كل ولد العشيرة راح يتكتلون وأخوتج وابن عمج راح يروح دمهم هدر", لم أتمكّن من القبول أو الرفض كنت مسلوبة الإرادة.

غياب الزغاريد والاحتفال وتكسر الأحلام

يعرّف "زواج الدم" أو "زواج الفصلية"، بحسب الشيخ أنور شعلان - شيخ عشائر الخزاعة - بأنه :"عرف عشائري قديم يتم خلاله تزويج إحدى نساء العشيرة المعتدية، إلى عشيرة الشخص المعتدى عليه أو أحد من أقربائه، لحقن الدماء وحدوث الصلح وتقوية الأواصر بين العشيرتين".

ويضيف لـ"ألترا عراق" أنّ "هذه الأعراف مرفوضة من قبل وجهاء العشائر في الوقت الحالي، خصوصًا أن هذه الممارسات توقفت منذ العام 1970، لما فيها من إساءة للمرأة، فالمرأة أصبحت مستقلة بذاتها ولها حرية الاختيار والإرادة خصوصًا في مسألة الزواج".

"على عكس ما كنت أتمنى أن يكون يوم عرسي مليئًا بالفرح والغناء والاحتفال أصبحت عربون صلح"، هكذا وصفت (أم ياسر) يوم زفافها قبل ثلاثة عقود، وسط أجواء تشبه المآتم وبكاء أخوتها ووالدتها. تضيف: "حضرت عدة سيارات ترمي الطلق الناري في الهواء وينتظرون أن تسلمني عائلتي لهم، خرجت من باب بيتنا، كان هناك رجلان وامرأة كبيرة في السن، أشخاص بوجوه شاحبة يخيم عليها الغضب بانتظاري".

تؤكد (أم ياسر) في حديثها لـ"ألترا عراق" أنها حاولت جاهدة تناسي أيامها الأولى في الزواج، وأن تغفر لعائلة زوجها ما عاشته خلالها من معاملة سيئة من قبل النساء في عشيرة الزوج اللواتي كن يطلقن عليها تسميات كـ"الخادمة" و"العبدة"، ويخبرنها بأنها ستبقى بحسرة العرس والثوب الأبيض، حيث أنها لم تتمكّن من رؤية عائلتها لمدة عامين متتالية عاشتها بخوف وقلق. تتذكر (أم ياسر) ذلك بألم وتقول "ما كان ذنبي وأنا ابنة العشرين عامًا أن أُحرم من أهلي وتسلب مني حرية اختيار شريك حياتي".

عند ولادتها لطفلها الأول،رفضت عائلة الزوج ذهابها لبيت عائلتها. تصف"أم ياسر" ما حدث لها حينئذٍ قائلة: "فقدت الكثير من وزني وأصبح جسدي هزيلًا، وبسبب المضاعفات لم أتمكن من إعطاء ولدي الأول الرضاعة الطبيعية".

وتضيف: "ذات يوم دخل زوجي وسألني إنْ كنت أكن له مشاعر محبة؟ - كان جوابي بنعم. ومن يومها تغير كل شيء. أصبحت معاملة الزوج بشكل أفضل من أفراد العائلة الآخرين. ربما قلتها في لحظاتها بخوف أو تردد لكن بعد ثلاثين عامًا من زواجي، وبالرغم من أنني (فصلية)، إلا أني تجاوزت ذلك، وكلانا قرر أن ننسى الخصومة، تغيرت علاقة زوجي مع عائلتي وأخوتي، والحمد لله عوضت ذلك بتزويجي لثلاثة من أولادي باختيارهم ورضا زوجاتهم".

الناشطة في مجال حقوق المرأة فاتن الميالي من محافظة البصرة تعتبر "زواج الفصلية" بمثابة "زواج إكراه يفتقر لكل الأسس الشرعية والقانونية للزواج". وتضيف: "خلال عملي كناشطة كنا نتواصل مع نساء تم الحكم عليهن كفصلية، لغرض تجنب الاقتتال بين العشائر، الكثير منهن كن في حالة من اليأس والخوف".

في إحدى المرات، تروي الميالي لـ"ألترا عراق"، "تم أخذ فصلية لأختين بعمر صغير مابين 15 و17 سنة، بالإضافة إلى مبلغ مالي كبير، وبعد عدة أشهر أقدمت إحداهن على حرق نفسها ما سبب لها تشوهات بالغة. تم إعادتهن لعائلتهن واكتفت عشيرة المقتول بالمبلغ المالي".

مبادرات مجتمعية لإيقاف تزويج النساء كـ"فصلية"

الشيخ ناصر الهميلي -رئيس عشائر البخاترة في محافظة البصرة - يؤكد أن "النزاعات العشائرية بين الرجال لا يمكن أن تحل بإيذاء النساء ليكن ضحايا لا ذنب لهن.زواج الدم، وإطلاق النار وترهيب الناس لن يحل النزاع بل قد يزيد الطين بلة. العقل والحكمة هي زينة الرجال وهذا ما اتبعته خلال سنوات طويلة لحل النزاع بين العشائر في البصرة. وبفضل الله وتوفيقه تمكّنا من حل عشرات النزاعات العشائرية التي كان يمكن أن تجعل من نسائنا ضحايا لزواج لا توافق وقبول فيه"، كما يقول الشيخ الذي أخبر "ألترا عراق" عن بعض المبادرات تمكّن فيها من حسم الخلافات وإتمام الصلح والتراضي.

"في حال زواج الفصلية كنا نرفض ذلك ونجعل أطراف من كلا العشيرتين تتدخل للوساطة وتهدئة النفوس"، وضمن المبادرة التي تبناها الشيخ الهميلي، يتم إقناع عائلة المقتول بالاكتفاء بالدية (المبلغ المالي الذي تدفعه عائلة القاتل لعائلة المقتول)، بالرغم من أن بعض العوائل التي تسبب أبناؤها بالقتل، لا تملك المبالغ المالية الكبيرة التي تصل إلى (مئة مليون دينار عراقي) في بعض الأحيان، لكن العشيرة التي ينتمي إليها القاتل تتكفل بجمع المبلغ من الأشخاص المتمكنين ماديًا في العشيرة لإنهاء النزاع وإتمام الصلح بين الطرفين دون أن يتم أخذ النساء والفتيات كزوجات فصلية.

في تجمع عشائر البخاترة فقط يمر خلال السنة الواحدة، ما يقارب من 7 - 15 حادثة قتل يتم التدخل فيها لإتمام الصلح والتسوية بين الخصومة.

يقول الشيخ الهميلي: "هدفنا هو تحقيق مشروع السلم الأهلي الذي نتبناه إتجاه أهلنا في عموم محافظات العراق، والحد من النزاعات العشائرية دون أن تكون أخواتنا وبناتنا ضحايا لعادات قديمة".

أما أم ياسر، التي لم تكن محظوظة كما هن النساء الناجيات من هذا العرف الآن، فتقول لـ"ألترا عراق"، إنه "خلال السنوات الماضية عادت ظاهرة زواج الفصلية وانتشرت في محافظة ذي قار ومحافظات أخرى، و مع كل حادثة أسمعها، أتمنى ألا تعيش بناتنا ما عشته أنا في الماضي".

خلال السنوات الماضية عادت ظاهرة زواج الفصلية وانتشرت في محافظة ذي قار ومحافظات أخرى

وتضيف:"عشيرة زوجي التي أصرت منذ ثلاثين عامًا، على أخذي كفصلية، وقعوا بمشكلة مع عشيرة أخرى قبل عدة أعوام بسبب حادثة قتل، وعندما طلبت العشيرة الأخرى نساءً من عشيرتهم جمعوا مبالغ طائلة لتسديدها كدية، لكي لا يتم أخذ نساء عشيرتهم كفصلية، وبهذا تم إنقاذهن بالفعل".