16-أغسطس-2022
بابل

أشاع بعض المؤرخين العراقيين أنّ سقوط بابل كان بسبب تآمر اليهود (فيسبوك)

من النظريات التي طرحها بعض المؤرخين العراقيين حول العوامل التي أسهمت في سقوط بابل عام 539 ق.م، نظرية عرضت دور اليهود في سقوطها، ويستدل هؤلاء على ذلك بأن اليهود الذين عانوا من الأسر البابلي بعد تدمير عاصمتهم أور شليم (القدس الحالية) على يد نبوخذ نصر الثاني (604 - 562 ق.م) لا بدّ أن يكونوا حاقدين على بابل آنذاك، ومن ثم فأنهم بالتأكيد لن يفوتوا أي فرصة للانتقام منها، ومن الأدلة الأخرى التي يسوقونها أيضًا لإثبات هذه الفرضية: سماح كورش الأخميني (559 - 530 ق.م) لليهود بالعودة إلى فلسطين، فهو في نظر هؤلاء المؤرخين ليس مجرد قرار صدر لدوافع إنسانية، بل لابد أنه جاء ردًا لجميل اليهود عليه في مساعدتهم له في احتلال بابل. لكن هل هذه هي الحقيقة؟ ففرضية حقد اليهود المرتكزة على الدوافع السايكولوجية لا يمكن لوحدها أن تثبت مشاركتهم في إسقاط بابل، لا سيما مع غياب شبه تام للأدلة المادية، وهذا ما يصح أيضًا على القرار الأخميني القاضي بعودة اليهود إلى فلسطين، إذ أنه لم يشمل اليهود وحدهم، بل شمل غيرهم أيضًا كجزء من سياسة عامة لاستمالة الشعوب للحكم الأخميني.

كانت أخطاء الملك نابونائيد هي السبب الأساسي في سقوط بابل القديمة

أما الأسباب الحقيقية التي ساعدت الأخمينيين على احتلال بابل فأهمها: سوء حكم ملك بابل الأخير نابونائيد (555 - 539 ق.م) وتسببه في انقسام البابليين بعد أن رفع مكانة (سين) إله القمر عند البابليين فوق مكانة مردوخ إله بابل الرئيس، ما أثار غضب كهنة هذا الإله ضده وربما دفعهم ذلك إلى التعاون مع كورش ضد مليكهم، ومن الأخطاء التي ارتكبها الملك البابلي أيضًا تحالفه مع كورش الأخميني ضد حليفه السابق الملك الميدي (إستياجز) بهدف السيطرة على مدينة حران التي تشغل أمه الطاعنة في السن وظيفة الكاهنة العليا في معبدها الرئيس (معبد الإله سين) وهي المدينة التي كان الميديون يسيطرون عليها، وبفضل ذلك؛ تمكن كورش من هزيمة الميديين مستفيدًا من دعم الملك البابلي له، ومن ثم أصبح الطريق معبدًا له لمهاجمة بابل التي فقدت حليفها الميدي، لا سيما بعد أن تمكن من هزيمة الليديين في آسيا الصغرى عام 547 ق.م، أما الملك البابلي فقد ترك قواته تقوم بإعادة بناء معبد الإله (سين) في حران الذي تشرف عليه أمه، ما أضعف روحه العسكرية وأبعده عن مهمته الرئيسة في حماية بابل، ثم جاءت الطامة الكبرى بتعرض بابل لأزمة اقتصادية زادت أسعار السلع فيها أضعافًا مضاعفة، وعلى ما يبدو، فإن سبب هذه الأزمة، إغلاق كورش الأخميني للطرق التجارية التي توصل بابل بالشرق والشمال، ما دعا الملك البابلي إلى البحث عن مراكز تجارية بديلة تعوض المراكز القديمة التي لم يعد بإمكان بابل الوصول إليها بعد التوسع الفارسي في المناطق الشمالية والشرقية، لذا قاد نابونائيد حملة عسكرية للسيطرة على شمال الجزيرة العربية وصل فيها إلى (يثريبو) يثرب وساحل البحر الأحمر، لكن الغريب أنّ هذا الملك وبدلًا من العودة إلى بابل التي كان يتهددها الغزو آنذاك، استوطن تلك المنطقة وأنشأ له عاصمة هناك في  تيماء، ساحبًا معه عدد من القطعات البابلية التي كانت البلاد في أحوج ما يكون إليها لصد الهجوم الفارسي الأخميني الذي بدأت علائمه تلوح بالأفق، لا سيما وإن الملك كورش كان على علم بما يجري في بابل بفضل العيون التي تعمل لصالحه فيها وتنقل له أخبارها، وقبل أن يتحرك كورش تمكن من استمالة أحد القادة العسكريين البابليين واسمه (كوبارو) كان يرابط مع قطعاته في منطقة كوتيوم في شمال شرق بلاد الرافدين، وقد تحرك هذا بجيشه البابلي قبل تحرك كورش بجيشه الفارسي الرئيس، وعلى ما يبدو، فإنّ غوبارو هذا هو أول من دخل بابل بعد أن هزم  جيش ولي العهد البابلي (بيل شار أوصر) عند مدينة أوبس، فالقتال في تلك المعركة المصيرية كان على ما يبدو بين جيشين بابليين أحدهم موال للأخمينيين بقيادة (كوبارو) والآخر موال للدولة البابلية بقيادة ولي العهد البابلي الذي قتل في المعركة، فسيطر غوبارو على بابل ثم سلمها لكورش الذي دخلها بسهولة، إذ وصف الملك الفارسي استقبال البابليين له بأنهم أخذوا يتهافتون لتقبيل قدميه فرحًا بقدومه، وهذا الوصف على ما يرجح مجرد دعاية لا أساس لها من الحقيقة، إذ يصعب تصور فرح شعب بغزو يتعرض له من شعب آخر، إلا إذا كان المقصود بهؤلاء الجماعات الموالية لهم والمتعاونة معه من البابليين.

أما الملك البابلي (نابونائيد) فقد وصل إلى بابل بعد فوات الأوان، إذ وجد الأمور  فيها مستتبة لصالح الفرس الأخمينيين، فألقي القبض عليه وسلم إلى كورش الذي أعلن نفسه ملكًا على بابل بدلًا عن الملك البابلي، معلنًا أنه جاء إلى بابل بأمر من إلهها مردوخ الذي قلده الملوكية بالنيابة عنه، ويتضح من ذلك: إن سقوط بابل بيد كورش الأخميني عام 539 ق.م لم يأت بسبب تآمر اليهود كما أشاع بعض المؤرخين العراقيين، بل بسبب أخطاء الملك نابونائيد، ومن ذلك ابتعاده عن بابل لعشر سنوات، وبسبب الأزمة الاقتصادية التي استفحلت في السنوات التي سبقت سقوط بابل، والأهم من ذلك؛ بسبب تعاون بعض البابليين مع الملك الفارسي وعلى رأس هؤلاء كهنة مردوخ والقائد العسكري غوبارو.