23-يونيو-2022
الحضارة

مراجعة للأوامر الدينية والقوانين (فيسبوك)

الاغتصاب جريمة قديمة قدم التاريخ نفسه، وتتفاوت نسب انتشارها بين المجتمعات، فهي ليست مشكلة ذات طبيعة محلية محصورة ضمن مجتمع دون آخر، لكن ظروف ارتكابها ودوافعها وسمات مرتكبيها الشخصية وضحاياها تختلف بشكل جذري، فهي الحالة التي يحقق فيها الفرد، وهو عادة الذكر، علاقته الجنسية بالقوة والإكراه، ودون موافقة الضحية على ذلك، غير أن التعريف القانوني قد يجعل العلاقة اغتصابًا حتى ولو تمت بالموافقة، فإذا تم الاغتصاب لشخص لا يتمتع بالقدر الكافي من البصيرة والفهم بحيث يتمكن من إدراك ما يقوم به، كأن يتم اغتصاب من لم يبلغ سن الرشد أو من كان متخلفًا عقليًا أو مضطربًا في عقله.

نظر العراقيون القدماء للاغتصاب على أنه جريمة كبرى

وفي العراق القديم، هناك عدة شواهد وأدلّة ضمن النصوص المسمارية إن كانت أدبية أو قانونية تؤكد وجوده وكيفية التعامل معه، حيث اعتبر جريمة كبرى وانتهاك يستوجب العقاب الإلهي.

الاغتصاب في النصوص الأدبية  

1 ـ أسطورة (إنليل وننليل - ولادة إله القمر ).

ومن النصوص السومرية التي تطرّقت لجريمة الاغتصاب، وقعت أحداثه في مدينة نيبرو، وفي العالم الأسفل تذكر الأسطورة أنّ الإله الشاب إنليل والإلهة العذراء نينليل وأمها "ننشيبارغونو" التي تحذر ابنتها من الذهاب وحدها للاستحمام في النهر، إذ قد "تراها أعين السوء أو يتعدى على عفافها أحد الشباب"، وجاءت كما يلي: 

  •  في تلك الأيام أوصت الأم ابنتها وقالت في الجدول الصافي يا امرأة لا تسبحي. 

  • يا نينليل في الجدول الصافي يا امرأة لا تسبحي.

  • يا نينليل لا تصعدي ضفة النهر، فلسوف يراك السيد بعينيه الوهاجتين، بعينيه سيراك الراعي صانع الأقدار. 
  • وعلى الفور يعانقك وعلى الفور يقبلك. 
  •  ولكن نينليل فتاة وعنيدة.

  •  أأصغت إلى تحذير أمها؟

  • في ذلك الجدول نفسه في الجدول الصافي راحت الشابة تستحم. 
  • وعلى ضفة النهر صعدت نينليل.

يتحقق كل ما خشيته الأم "ننشيبارغونو"، فيرى إنليل نينليل ويحاول غوايتها، وعندما ترفض الاستسلام يفترشها قسرًا ويغتصبها، غير أنّ جريمة الإله إنليل لم تمر دون عقاب عند عودته إلى المدينة، وهو يسير عبر ساحتها يلقى القبض عليه، ويؤتى به أمام السلطات، فيحكم عليه مجمع الآلهة (مجمع الخمسين من كبار الآلهة والسبعة الذين لهم القول الفصل) بالنفي من المدينة لثبوت جريمة الاغتصاب عليه، وجاءت العقوبات على النحو الآتي: 

  •  أمر كبار الآلهة الخمسون والآلهة السبعة ذو الكلمة الفصل بإلقاء القبض على إنليل. 
  •  على المغتصب إنليل أن يغادر المدينة.

 

فينصاع إنليل للعقاب ويغادر نفر، و"يهجر أرض الأحياء في طريقه إلى العالم الأسفل غير أن نينليل تتبعه".

2 - أسطورة الآلهة إينانا (عشتار) والفلاح شوكاليتودو.

من الأمثلة الأخرى على النصوص الأدبية أسطورة تدور أحداثها حول فلاح اسمه "شوكاليتودو" الذي سولت له نفسه أن يرتكب الخطيئة باغتصابه إلهة الحب نفسها الإلهة عشتار، مما كان سبب في إنزال العقاب به وببلده، بموجب الأسطورة فقد كان "شوكاليتودو" فلاحًا دؤوبًا على العناية بأرضه، وعلى حرثها وسقيها إلا أنّ العواصف الرملية كانت تعصف بزرعه، فتذهب جهوده أدراج الرياح، أخذ يتطلع إلى السماء عسى أن يتوصل إلى فأل يهديه ووسيلة تنقذ زرعه، وأخيرًا ألهمه تأمله حكمة مفادها أن يزرع حقله نوعًا من الشجر لها ظلال وارفة تحمي زرعه من عبث الرياح والرمال، وبالفعل نجحت الفكرة، ثم تذكر الأسطورة أنه في ذات يوم جاءت الإلهة عشتار تستريح في ظلال الشجر في حقل الفلاح بعد رحلة طويلة، وكان "شوكاليتودو" يراقبها من بعيد، فلما لاحظ أنها متعبة ولا تقوى الدفاع عن نفسها هجم عليها واغتصبها:

  • وصلت كاهنة المعبد إلى البستان متعبة وتمددت فيه لكي تستريح!
  •  لكن شوكاليتودو كان يراقبها من الطرف الأقصى من البستان.
  •  أمام عورتها على شكل وزرة كانت إينانا (عشتار) قد ربطت السلطات السبع مثل ستر لعورتها.
  • ثم استسلمت إلى النوم.
  • لكن شوكاليتودو حل هذه الوزرة الواقية، ضاجعها واغتصبها ثم عاد إلى الطرف الأقصى من البستان.

لما استفاقت الإلهة عشتار في صباح اليوم التالي، وتذكرت ما جرى لها بالأمس، صممت على الانتقام لنفسها منه وإنزال العقاب به وبأرضه، أرسلت عليه ثلاث بلايا، أولها جعلت الآبار تمتلئ بالدماء بدلًا من المياه، وثانيهما جعلت الرياح العاتية تعصف بالبلاد، أما الثالثة؛ فإننا لا نعرفها لأن النص المسماري مخروم في هذا الموضع، وتذكر الأسطورة في الجزء المتبقي أنّ الإلهة عشتار تعقبت الفلاح الذي ترك الريف فأرًا إلى المدن لكي تنتقم منه شخصيًا، لكنّ النص ينخرم مرة أخرى، وبذلك تبقى الحوادث الأخيرة من النص غير معروفة.

الاغتصاب في القوانين العراقية القديمة

لم يكن الجنس في بلاد الرافدين محرّمًا أو مرفوضًا على مختلف تاريخه، بل عدا شيء طبيعي، ولا يخضع إلى العقوبات إلا في حالة الخيانة الزوجية أو الاغتصاب، لهذا لم يغفل المشرع في بلاد وادي الرافدين التطرق إلى القوانين المرتبطة بجريمة الاغتصاب، فقد تناولها ضمن عدة قوانين قديمة منها: 

  •  1 - قانون الملك أورنمو 2112 - 2095 ق. م الذي يعد أقدم قانون في تاريخ البشرية، تذكر المادة الـ5 منه ما نصه: (إذا أزال رجل بكارة أمه رجل آخر بالإكراه عليه أن يدفع خمسة شيقلات من الفضة).

نلاحظ في هذه المادة أن العقوبة المفروضة على الجاني هي مجرد عقوبة مادية تعويضية ربما بسبب المكانة الاجتماعية للضحية كونها أمة (عبدة) لهذا وضع هكذا عقاب بسيط.

  • 2 - قانون إشنونا حدود 1840 ق.م  المادة 27 في مصادر أخرى 26 تنص على: (إذا أعطى رجل لابنة رجل مهرًا ولكن رجلًا آخر خطفها ودخل بها بدون موافقة أبيها وأمها فهذه قضية " قتل" نفس ويجب أن يموت).

وكذلك المادة 31 أو 32 في مصادر أخرى من نفس القانون (إذا افتض رجل بكارة أمة رجل آخر فيدفع ثلث ألمنا من الفضة أما الأمة فتعود لسيدها).

نشاهد الاختلاف جذري بين المادة الـ27 والمادة 31 من حيث اختلاف القصاص المفروض بسبب اختلاف المكانة الاجتماعية للفرد الذي وقعت عليه الجريمة، فبينما يفرض الموت لقاء اغتصاب ابنة رجل حر، فهناك تساهل كبير مقارنة في حالة كون الضحية أَمة (عبدة) حيث اكتفى المشرع بفرض عقوبة مادية بحق مغتصبها، وهذا مشابه لما ورد ضمن المادة 5 من قانون أورنمو.

  • 3 - قانون حمورابي 1792 - 1750 ق.م  من إجمالي 282 مادة قانونية تضمنتها شريعة حمورابي تطرّق لعقوبة الاغتصاب ضمن مادة واحدة فقط وهي مادة 130 والتي نصت على: (إذا باغت رجل زوجة رجل آخر التي لم تعرف رجلاً ولا تزال في بيت أبيها واضطجع في حجرها وقبض عليه، فإنّ هذا الرجل يقتل ويخلى سبيل تلك المرأة).

المادة 130 من قانون حمورابي تشبه بصورة كبيرة المادة 27 من قانون إشنونا، وعلى الأكثر اقتبسها حمورابي رفقة عدة مواد أخرى وأضافها لقانونه، حيث فرض عقوبة الموت على الجاني كون الضحية هي امرأة حرة، كما نصت عليها المادة ولم يتطرق، عكس قانون إشنونا إلى مادة قانونية أو عقوبة في حال كانت الضحية الاغتصاب أَمة (عبدة).

  • 4 - نص قانوني لحاكم غير معروف حدود 1800 ق.م.

من المواد القانونية النادرة في بلاد وادي الرافدين وردت ضمن نص، وهو جزء من مجموعة قانونية لحاكم غير معروف سبق حمورابي، النص بحالة رديئة وقد احتوى عدة مواد قانونية، وهي تخالف المواد التي تطرقنا إليها أعلاه، حيث تضمنت مادتين تخص الاغتصاب هما المادة 7 و8، نصت المادة 7 على: (لو فض رجل بكارة ابنة مواطن حر في الشارع دون علم والديها، أنها في الشارع، فقالت الابنة لوالديها لقد اغتصبت غصبًا يعطونها له زوجة).

منطوق المادة يخالف ما جاءت به القوانين السابقة، وكونها نوعًا ما كافئت المجرم بالزواج منها، ولم تقضي بوجوب عقوبة تعويضية إن كانت ماديًا أو جسديًا، بل سلمت له الضحية بشكل مباشر، بالإضافة لم تحدد المادة في حال كون الجاني متزوج مسبقًا كيف يتم تزوجيه الضحية في ظل أحادية الزواج في مجتع بلاد الرافدين إلا في حالات ضيقة جدًا.

أما المادة الـ8 فتذكر : (لو اعتدى رجل على عذرية ابنة مواطن حر في الشارع مع علم والديها، أانها كانت في الشارع، لكنه أنكر أنه كان يعرف أنها ابنة مواطن حر من الطبقة الحرة وأقسم أمام بوابة المعبد يمينًا بهذا المعنى يعفى عنه).

  • 5 - القوانين  الآشورية الوسيطة حدود 1450 - 1250 ق .م.

 المادة 12 نصّت على عقوبة من يغتصب امرأة متزوجة بالموت سواء قبض عليه متلبسًا بجريمته أو ثبت ذلك ضده بشهادة الشهود، وهذه العقوبة مشابهة لما جاء في المادة 27 من قانون إشنونا و130 من قانون حمورابي.

أما المادة 55، فقد اتصفت بالتطرف بشكل مبالغ به حيث تنص أن لوالد الفتاة التي اغتصبت الحق بأن يسلم زوجة من اغتصب ابنته لمن ينتهكها، ومن ثم حقه في أخذها لنفسه وتزويج ابنته من مغتصبها إن لم يكن له زوجة، وعلى المغتصب أن يقدم إلى الاب مبلغًا معينًا من المال، فهنا لم يقتصر العقاب على الجاني فحسب، بل شمل زوجة المغتصب في حالة كونه متزوج بأن تعاني من نفس مصير الفتاة التي اغتصبها زوجها، وهذا الشيء ظالم بشكل كبير كون زوجة المغتصب ليس لها علاقة بما ارتكب زوجها، والأفضل اقتصار العقوبة عليه فقط كما رأينا في المواد السابقة.

أما المادة 56، فقد نصت على أنه إذا أثبت الرجل بأنه لم يغتصب الفتاة، بل انها أسلمت نفسها له فعليه أن يدفع التعويض ولأبيها أن ينزل العقوبة التي يراها بحق ابنته.

المصادر:

  • سيكولوجية الاغتصاب / توفيق عبد المنعم 1994.
  • الاغتصاب دراسة تاريخية نفسية اجتماعية / د . نهى القاطرجي 2003.

  •  الجنس والنفس / د . علي كمال 1990.
  •  المرأة دورها ومكانتها في حضارة بلاد الرافدين / ثلماستيان عقراوي 1978.

  • ما قبل الفلسفة (الإنسان في مغامره الفكرية الأولى) مجموعة مؤلفين /1980.

  •  مقدمة في أدب العراق القديم / طه باقر 1976.
  • عشتار ومأساة تموز / د . فاضل عبد الواحد علي 1973.

  • أسطورة إينانا - عشتار / ج. بوتيرو، ص . ن. كريمر 2005.

  • الأساطير السومرية / صموئيل نوح كريمر 1971.

  • الشرائع العراقية القديمة / فوزي رشيد 1973.

  • القانون في العراق القديم / عامر سليمان 1987.
  • شريعة حمورابي واصل التشريع في الشرق القديم / مجموعة باحثين 1988.