10-أغسطس-2020

ما يجري في هذا الكتاب هو التعامل مع المستحيل بوصفه إمكانية (فيسبوك)

في أية وضعيةٍ وبأية كيفيّة يكون الصفْحُ ممكنًا؟ ما الظرفُ الذي يجعل جرائم كبرى، كمجازر الإبادة مثلًا، مواضيع للصفح، وما الإعدادات التي تجعل من الضحايا قادرين على أن يصفحوا عن القتلة؟

الصفح يتجاوز الحدود والسياقات السياسية والقانونية والدينية كلّها. فهو ليس مفهومًا سياسيًا ولا قانونيًا ولا تشريعيًا ولا حتى دينيًا

يناقش جاك دريدا في كتابه "الصفح" رؤى الفيلسوف الفرنسي "فلاديمير جانكلفتش" الذي يمكن عدّه "فيلسوف الفضائل الأخلاقية" نسبة إلى كتابه "دراسة في الفضائل"، الذي هو محاولة لصياغة كوجيتو أخلاقي بإزاء الكوجيتو الديكارتي. يؤمن جانكلفتش بأن صراعًا جدليًا بين الشرّ والصفح لا يمكن له أن ينتهي ولا أن يفضي إلى نتيجة، فالصفح ـ بحسبه ـ واسع مديد لكنه لا يحيط بالشرّ إحاطة تقتلعه من جذوره. يكتب: "الصفح أقوى من الشرّ، والشرّ أقوى من الصفح، إنها وضعية ليس بمقدوري الخروج منها".

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان الخطّاء لبول ريكور..من أجل أن يخسر الشيطان رهانه!

ومن هذه الاستحالة، استحالة أن يترجّح الشرّ على الصفح كما استحالة العكس، يدخل دريدا المولع بالاشتغال في فضاءات الاستحالة لا ليصادق على مقولات جانكلفتش، بل على فكرة أن الصفح ممكن برغم "بل بسبب" استحالته. ولا يمكن لصفح ما أن يُفكَّر فيه إلا إذا كان مستحيلًا، أيْ إلا إذا كان بإزاء جريمة تهدم كل إمكانية للصفح. ذاك لأن جرائم صغرى قد تتطلب الغفران أو المسامحة أو النسيان أو العفو، وهي كلها مفاهيم لا ترقى إلى مستوى الصفح " فهو مختلف عنها بكثير، ومتمايز معها. إن الصفح يتجاوز الحدود والسياقات السياسية والقانونية والدينية كلّها. فهو ليس مفهومًا سياسيًا ولا قانونيًا ولا تشريعيًا ولا حتى دينيًا، رغم أن جذره ينهل من الدين مباشرة. يجب أن يكون الصفح غير مشروط".

لذا يربط دريدا بين مفهومي "الصفح" و"الهبة" ففي تقديم الهبة ثمة نداء يطالب بالاعتراف، كأننا حين نهب شيئًا فإننا نأخذ بمقداره في عين الوقت، ويخلص إلى أن "السيادة أو الرغبة في السيادة تسكن الهبة دائمًا".

الصفح مستحيل، لكنه مستحيل بشكل مضاعف في صوت الضحايا. كتب إيلوار "لا يوجد خلاص على الأرض طالما أننا نستطيع الصفح عن الجلادين".

جانكلفتش ذاته، وفي حديثه عن المحرقة اليهودية، بلغ بهذه الاستحالة مداها الأبعد، حين قال إن أية عقوبة ممكنة لن تكون مناسبة للجرم أبدًا، لأن العقوبات مهما كبرتْ فهي ذات أحجام متناهية بينما الجريمة في أفقٍ لا نهائيّ ولا سبيل إلى مقايستها بقصاصٍ مسيطر عليه ومفهرس ومضبوط بقانون "إنسانيّ"، ولذا فهو يرى في كلّ قصاص غير ذي أهمية مقارنة بالفجوة اللانهائية التي فتحتها الجريمة التي بلبلت الألسن والأفهام إلى الحدّ الذي ـ بتعبيره ـ "لم نعد نعرف حتى هويّة من نلومه ولا من سنتّهم". والجريمة لا يُجبر ضررها أبدًا، لا بالعقوبة ولا بالغفران، كلّ ما يمكن فعله هو وضع حدّ لها، عدم تكرارها، وهو أمر يمكن أن يتكفل به العقابُ أو الصفح، كلاهما لا يستطيعان نزع اليأس والشعور بالعجز ولا جبر الضرر، لكنْ يمكنهما ـ بتعبير حنه أرندت: "وضع حدّ لشيء قد يستمرّ إلى ما لا نهاية دون تدخل من قبل العقوبة أو الصفح على حدّ سواء".

الجريمة إذن لا يمكن التكفير عنها، وهي بمعانقتها لما لا يمكن، تخرج من الحيّز الإجرائيّ الذي يجعلها مادة للمصالحة الوطنية أو العفو السياسيّ أو حتى العفو ذي الطابع الدينيّ، لتدخل ذلك الحيّز الاستثنائيّ الخارق الذي يجعلها محتكة بالمستحيل وممكنة في آن.

ولكي يكون هذا المستحيل ممكنًا، يضيف دريدا أن الصفح يستلزم إبعاد الطرف الثالث فورًا، فعملية الصفح تتطلب حضور الضحية والمجرم وجهًا لوجه ورأسًا لرأس، فلا أحد له حقّ الصفح عن أحد آخر، كما لا حقّ لأحد أن يتكلم باسم الضحيّة فـ"لا يمكن طلب الصفح من أحياء ومن ناجين عن جرائم أصبح ضحاياها في عداد الموتى". و" لا يمكن أن يكون من قبل طرف ثالث لفائدة طرف ثالث".

أمر آخر يناقشه دريدا خلال بحثه في أفكار جانكلفتش وهو ضرورة أن يكون الصفح مطلوبًا، أي أن يطلب "المجرم" صراحة أو ضمنًا الحصول على صفح. لأن طلبًا كهذا إقرار بالذنب أولًا وبالندم، وبالحاجة إلى هبةٍ تهبها الضحية له، بحاجة إلى ضيافة الضحية ليكون هو وجرمه من ضمن ما يمكن أن يدخل في حيّز الصفح "يتوجب علينا طلب الصفح لكي نكون عادلين"!

بقي شرط آخر، وهو يتلخص في ضرورة أن يكون الشرّ في حدوده "الإنسانية" غير متجاوز لحدود الشرّ الجذريّ، لأنه إذا تجاوز هذا الحدّ خرج من حدود ما هو إنسانيّ إلى الحدّ الذي يصبح فيه غير ذي أهلية على اعتبار أن الصفح هو الآخر "لا يأتي إلا من حدود ما هو إنسانيّ"

لكنْ هل هذا الأمر ممكن؟

أن تنتفي كل وساطة بين الشرّ وضحاياه، وأن يكون هناك طلب للصفح وأن يكون الشرّ غير ضارب في أرض البهيمية؟

هذه التركيبة وصفة مستحيلة لهبة ممكنة. لأن جدلًا غارقًا في ما يبدو تناقضًا، هو عمل جاك دريدا الأثير، الذي يُبنى فيه القول ويُهدم في الآن ذاته، وهو شبيه بمفهومه عن  "Pharmakon" الذي يعني السمّ وترياق السمّ في آن واحد. وهو ما يذكر بجملة صاموئيل بيكيت في كتابه "اللامسمى" وهي جملة أثيرة عند دريدا "لا أستطيع الاستمرار ـ سأستمرّ".

لا يمكن طلب الصفح من أحياء ومن ناجين عن جرائم أصبح ضحاياها في عداد الموتى

لا خلاصة ممكنة لهذا الكتاب، لا خلاصة لأيّ كتاب، لكنّ ما يجري هنا في هذه الصفحات هو التعامل مع المستحيل بوصفه إمكانية!

..........................

هذه قراءة لكتاب:

"الصفح، ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم"

جاك دريدا

ترجمة: مصطفى العارف وعبد الرحيم نور الدين

دار المتوسط ـ 2018. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ولادة الفلسفة لجيورجيو كولي.. الفلسفة بوصفها نسيان الأصل

الصلاةُ في قلب القاموس