25-أكتوبر-2020

كانت تظاهرات تشرين هي الأهم في تاريخ العراق (Getty)

كان وقوف المتظاهرين أمام القناصين أبرز الصور التي تصدرت مشاهد الأسبوع الأول من انتفاضة تشرين، والحزنُ يخيم على الناس بعد ذهول من صور القتل الوحشي التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مع رجوع خدمة الإنترنت تدريجيًا إلى البلاد.

أنتجت انتفاضة تشرين بإيجابياتها وشوائبها الطبيعية، وبالتحديد، العودة بعد 25 تشرين تغييرًا في القواعد السياسية والاجتماعية

عاد الناسُ إلى أشغالهم، وأدّوا الزيارة الأربعينية مشيًا إلى كربلاء، والصدورُ مملوءة بالغضب من طريقة القمع التي مارستها الحكومة وعصاباتها: قطعُ خدمة الإنترنت وفرض حظر التجوال وإغلاق قنوات فضائية واستخدام القوة المفرطة في سحق الشباب المتظاهرين. مشاهدُ تُدرس في أعتى الدكتاتوريات، تحدث في بلاد يُطلق على نظامها ديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: 25 تشرين.. رفاق صفاء السرايّ يطلقون جولة جديدة من الاحتجاجات

على مواقع التواصل الاجتماعي، غيّر مواطنون كُثر صورهم الشخصية مطرّزة بشعار 25 تشرين وبعنوان "نريد وطن" الذي رُفع في ساحة التحرير. لم يَسبق لهذا الكم الهائل من التعاطف أن حدث مع تظاهرات سابقة. رغم ذلك؛ لم يكن التفاؤل سيّدًا ربما لتكرار التجارب بطريقة واحدة: تظاهرات .. قمع .. غضب .. ينتهي كل شيء. لكن تراكم الغضب يكسر التقاليد كما يُخبرنا التاريخ.

قبل يوم من الموعد المحدد، برز مؤشرٌ على ما سيحدث، حين اقتحم محتجون المنطقة الخضراء ثم فرّقتهم القوات الأمنية. دمٌ يغلي في العروق لم يمهل الشباب فرصة الانتظار يومًا آخر. جاء اليوم الموعود، وكانت التظاهرات في بغداد أضعف نسبيًا من المحافظات رغم أنها كانت الأقوى والأكثر تعرضًا للقمع في الأسبوع الأول. لكن مع مضي الوقت وبدء المتظاهرين بنصب الخيام وتنظيم اعتصام مفتوح، وزوال الضبابية الناشئة من الأحداث السابقة وكثرة وتداخل الدعوات وحملات التخوين، صار التدفق نحو الساحة أكبر.

تداخلت عوامل عدة في الساعات القليلة المتلاحقة. استخدمت القوات المكلفة بمنع المتظاهرين من عبور الجسور وتحديدًا جسر الجمهورية، الغاز المسيل للدموع ليس لإسالة الدموع وإيقاف التقديم، بل قذفت تلك القنابل عشوائيًا إلى الأعلى بمستوىٍ متوسط لا يقلل من حرارة المقذوف في الجو وقوة اندفاعه، ولا يستهدف الأقدام في أسوأ الأحوال، بل لتسقط المقذوفات على جماجم المتظاهرين وتقتلهم دون استخدام "الرصاص الحي" حسب التوجيهات!

كانت هذه الأخبار تُزيد من تعاطف المواطنين مع المعتصمين. ثم جاء خبر سقوط الناشط والمتظاهر الدائم صفاء السراي بقذيفة غازية في الرأس فارق على اثرها الحياة بعد ساعات في المستشفى، لتثير موجة غضب عارمة في أوساط الناشطين انتقلت إلى شرائح واسعة من المواطنين وزادت من تعاطفهم.

تكللت الأحداث المتسارعة بإعلان حكومة عادل عبد المهدي فرض حظر للتجوال في العاصمة، وكان الردُ حاسمًا، حين خرج مئات الآلاف وربما الملايين في الشوارع بسياراتهم وسيرًا على الأقدام في أكبر عملية "كسر قرار" حكومي، وإرادةٍ سلطوية من عامة الجماهير ربما بتأريخ البلاد. لعل السلطات تفاجئت من حجم العائلات التي سارعت للخروج من المنازل بعد سماع قرار حظر التجوال. ووفق مشاهدات وحوارات، كان هدفُ الكثير من الناس منع الحكومة من محاصرة المتظاهرين بقرار الحظر وقمعهم مجددًا.

توّجت العوامل المجتمعة كلها بتحدٍ جماهيري غير مسبوق. التحدي في قطع الطرق.. حظر التجوال.. القنابل الدخانية..التموين والإعلام، الاستيلاء على المطعم التركي وغيرها من التحديات. كان هذا التتويج بمثابة إعلان فصل بين المواطن/المحتج، والسلطة/الأحزاب، التي باتت جميعها متهمة بالتآمر وارتكاب جرائم بسبق الإصرار مع نوايا مبيتة لفض الاعتصام بالقوة واقتحام المطعم بإنزال جوي. هكذا كانت تصل الأنباء إلى المعتصمين ومن خلفهم داعميهم.

سجّل استمرار التحدي بذاته النجاح الأول لانتفاضة تشرين. إنها المرة الأولى التي ينجح الناس ـ أو من أُنتخبوا كضمير للمجتمع ـ بأن يجبروا السلطة على الرضوخ ويكسروا الحواجز التي كانت بين عامة الشعب والتظاهرات السابقة (مدنية.. صدرية..فئوية.. إلخ).. متغلبين على نظريات المؤامرة التي قيلت عن الحراك، ومحاولات الإحباط والتثبيط باستخدام التخويف من ركوب الموجة وغيرها.

أعاد المتظاهرون رسم خارطة التضحيات واقتحموا قصص النضال وفرضوا أنفسهم في قوائم الأبطال والشهداء بمسميات وطنية خالصة

كانت العودة إلى الساحات والوقوف كتفًا بكتف لمواجهة "الفريق باء" البديل لمطلقي الرصاص والقناصين بمثابة انتصار لدماء الضحايا الذين سقطوا في الأسبوع الأول. وكأن الشعب يعلن مرحلةً جديدة مع أنظمة الحكومة شخّصناها مبكرًا، وقد دفعت المرحلة مرجعية النجف الدينية (لاحقًا) أن تؤشر هذا التحول وتعتبر ما قبله ليس كما بعده. وللتأريخ، كانت عودة بلا دعمٍ إعلاميٍ محليًا كان أم أجنبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: بـ"الدماء والغباء".. ذكرى احتجاج تحول لانتفاضة

أنتجت انتفاضة تشرين بإيجابياتها وشوائبها الطبيعية، وبالتحديد، العودة بعد 25 تشرين تغييرًا في القواعد السياسية والاجتماعية. انتصر المواطن على عُقّدته بل عُقده المتمثلة بعدم التوحد، وعدم الصمود بوجه القوّة الغاشمة، والاحتجاج المستمر ذو النفس الطويل، والتغلب على الهويات الفرعية داخل الحراك، وصنع ذاكرة لن تنسى في تأريخ الاحتجاجات.

تُرجمت الدماء التي سالت في أسبوع تشرين الأول إلى صورٍ في مواقع التواصل ثم تحشيد فتظاهرة هي الأهم في تأريخ العراق، حتى تعدت إلى هويةٍ بعنوان "تشرين" لبعض الناس. إن جيلًا جديدًا من الشباب فرض نفسه على معادلة الطوائف وزعماء الطوائف. أعاد المتظاهرون رسم خارطة التضحيات واقتحموا قصص النضال وفرضوا أنفسهم في قوائم الأبطال والشهداء بمسميات وطنية خالصة. ولعل العودة بذاتها، بعد، ورغم، كل ما جرى خلال شهر تشرين الأول، وإسقاط الحكومة، هي المفصل الأهم في هذه الانتفاضة، فتحدي الشعوب للمتسلطين أول طرق الخلاص.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قواعد السلطة وورطة تشرين.. شدّ الجمهور بـ"الجوكر"

انتفاضة تشرين: الموت من أجل الحياة