10-أكتوبر-2020

فقدان الشرعية مرتبطٌ بفقدان الشعبية والعكس صحيح (Getty)

لا توجد سلطة أو نخبة حاكمة تجهل ضرورة وجود قاعدة اجتماعية حاضنة لها أو للنظام، وكذلك على جانب المعارضات، مع تفاوت في الآليات التي تستخدمها لخلق هذه القاعدة أو إدامتها ـ إدامة ولائها ـ ، وفي نوع القاعدة إن كانت عامّة أو جزئية، والجزئية هنا تعني فئةً ما، طبقية، طائفية، .. إلخ.

مثل تنظيم داعش لا يخشى تحشيد الطوائف الأخرى ضده، بل يستمد قوته من ذلك، والدليل هو خطابه المستفز حين هدد وتوعد مقدسات الشيعة

يقوم المثقفون والمفكرون المهمومون بقضايا أممهم بتنبيه الحاكمين ورجال السلطة إلى ضرورة كسب الشعوب إذا ما أرادوا التقدم والحفاظ على أمن الوطن واستقراره وتطوره سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. تنتقل الكرة بعد ذلك إلى القيادة ذاتها، معتمدةً على ثقافتها، وطنيتها، رباطة جأشها وإدراكها للتحديات، ومدى قبولها للديمقراطية، لتحدد هي علاقتها مع المواطنين التي ترسم بدورها شكل النظام وبالتالي نوع الحياة في البلد المعني.

اقرأ/ي أيضًا: غصون الطائفية المتفرّعة وأرجوحة الفاسدين

انتظرت الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة عشرة عامًا لتُسقط نظام صدام حسين بالطريقة التي شاهدها الجميع، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار خلال أحداث 1991 حين أجبرت القوات الدولية الجيش العراقي على الانسحاب من الكويت. وخلال الأعوام التي تركت فيها النظامَ تحت حصار اقتصادي هائل، تفككت الروابط بين المجتمع والحزب الحاكم حتى صار دخولُ الأجنبي مقبولًا إلى حدٍ ما.

لأهمية القاعدة الاجتماعية لكل نظام أو حزب أو تيار أو جماعة، تستخدم هذه الأطراف ما يُتاح وما لا يُتاح لها من أدوات لضم الجماهير تحت عباءتها، ولعل ذلك هو الدافع الأساس الذي يُفسّر سبب أن الاحتراب الداخلي بين القوى ذات المنهج العام الواحد أو من يجمعها جامعٌ رئيس، يكون أقسى وأعنف. إنه صراعٌ على المادة اللاصقة للمجتمع المُراد كسبه. صراعُ النفوذ والسطوة. ولأن الدين هو إحدى أدوات السيطرة الفاعلة المنتجة فلهُ من النماذج المتعددة والمنتشرة. خذُ حالة الفصائل المتناحرة في سوريا والتي تقف جميعها بالأصل ضد النظام. خذ حالة القوتين الدينيتين الرئيستين في مصر. إن الصراع بين الجماعات الدينية المتشددة فيما بينها هو الأقوى.

كان سيفُ تنظيم داعش ـ وهو ما لا تذكره الخطابات بأنواعها ـ أشد على أبناء السُنة الذين ينتمون لذات المذهب. فلأن الحرب طائفية أو يُراد لها أن تكون كذلك؛ جرى التركيز على ضحايا سبايكر (1700 شهيدًا) من الشيعة، وغابت إعدامات التنظيم الجماعية لأبناء الموصل "المرتدين" أو الممانعين لمبايعة "الخليفة"، عن الأضواء.

مثلُ هذا التنظيم لا يخشى تحشيد الطوائف الأخرى ضده، بل يستمد قوته من ذلك، والدليل هو خطابه المستفز حين هدد وتوعد مقدسات الشيعة بعد أيام من احتلال الموصل، وإنما يخشى فقدان حاضنته الاجتماعية التي مكّنته أو سمحت له بالوجود، وأدى فقدانها إلى فقدانه قوته الحقيقية رغم إمكانياته العسكرية النوعية. هذا بالذات ما نقصده بالقاعدة الاجتماعية وأهميتها.

استخدم النظام السابق خطابًا تخوينيًا كالعادة في وصف انتفاضة آذار 1991، فاقتحام دولة مجاورة ثم الانسحاب والهزيمة العسكرية وجملة التصفيات الدموية التي سبقتها ليست مبررًا كافيًا لخروج الناس على النظام من وجهة نظره، بل تحميل عملاء وإيرانيين مسؤولية ما حصل، وإن كانت الأحداث لا تخلو منهما. على أية حال فُهم فرسٌ مجوس، وليسوا مواطنين ناقمين على البطش والحروب. هذا ما يُريد النظام إيصاله لقاعدته الاجتماعية بهدف شدّها له.

في اعتصامات المناطق الغربية، استخدمت حكومة المالكي ومن معها ذات الأساليب ووصفت المعتصمين بأقذع الأوصاف؛ لكن التركيز كان على طائفتهم. إن الجواب الحاضر لقاعدة الحكومة الاجتماعية هو: هؤلاء سُنة يريدون انتزاع الحكم منكم. بهذه الطريقة، تتوارى الأسئلة الأخرى عن الأنظار.

جاءت انتفاضة تشرين 2019 بطريقة صعّبت على السلطة وأحزابها استخدام الأوراق التي أُتيحت لها إبان اعتصامات الغربية، وكتلك التي أُتيحت للنظام السابق. كانت ميزة تشرين التاريخية أنها انتفاضة شعبية لجماهيرٍ شيعية بعناوينٍ وطنية ودينية في ذات الوقت. رفع الشبابُ راية الأئمة بوجه من يحكمون باسمهم فأسقطوا خديعة "الدفاع عن المذهب" المستمرة منذ 16 عامًا حين ردّ الجلاوزة بالنيران والأسلحة القناصة على متظاهرين سلميين من أبناء مذهبهم.

حملُ صور السياسيين والأعلام الحزبية والعسكرية ليس إقحامًا للسياسة بالدين بأعراف سلطة المحاصصة، لكن حمل صور شهداء تشرين والهتاف ضد أمريكا وإيران سلوكًا منحرفًا يسيء للزيارة!

رغم بُعد الانتفاضة الشعبي والتعاطف العام معها لكن الحقيقة العملية الخالية من العواطف تفي بأن القائمين عليها كانوا من أبناء الوسط والجنوب. إن غياب ورقة الطائفية، وحتى إمكانية اللعب على ثنائية "العلمانية/الإسلام" أرهق أحزاب السلطة إلى الدرجة التي جعلتها تتلقف صورةً وضعها مدونون في مواقع التواصل لبطل فيلم الجوكر لتستثمرها في وصف المتظاهرين، بأوضح صورةٍ لإهانة الذات.

اقرأ/ي أيضًا: أحداث كربلاء: صدامات بعد اعتداء على "موكب تشرين".. وتهديد من الصدر

يحاول المثقفون من المتظاهرين أو المساندين لهم في بلداننا العربية تنبيه الناس للخداع الذي يمارسه النظام باستخدامه إحدى الجهات المعارضة أو المعادية كشمّاعة لتعليق فشله أو استبداده عليها؛ لكن النظام العراقي اختصر علينا ذلك باختراعه عدوًا وهميًا بمعنى الكلمة، استورده من السينما! .. فحين يستخدم النظام المصري "الإخوان المسلمين"، والسوري "الجماعات المتطرفة"، تستخدم الأحزاب العراقية فيلمًا أجنبيًا، وتلك والله مهزلة المهازل.

لا يستحي المسؤول والنائب والمحلل القريب من النظام أن يستخدم لفظة "الجوكر" على متظاهرين في وصفٍ فارغ المحتوى كونه مجبرًا على الجواب عن سؤال جمهوره أو قاعدته الاجتماعية: لماذا يتظاهر هؤلاء الشباب؟ ومن هُم؟

"إنهم يريدون وطنًا محترمًا. وهُم شباب من أبناء جلدتنا (شيعة) لا يحملون سوى الأعلام والأصوات". لا يُمكن للنظام الإجابة بهذه العبارات التي تفضحه. لقد جاءت حادثة الوثبة كرزقٍ من السماء كانوا ينتظرونه، ثم خرجت بعض الأصوات الفردية التي تسب المقدسات لتعطيهم المادة التي افتقدوها طوال أشهر الانتفاضة، فعملوا على تضخيمها وتلوين صورة الكائن الوهمي المسمى "جوكر" ليكون أكثر إقناعًا لقواعدهم الاجتماعية، مستفيدين من عملية المطار التي أعطى فيها ترامب المفتاح السحري لشد الجماعة الحزبية الطائفية من جديد لبعضها ضد الأمريكيين والمتظاهرين سويةً.

من نافلة القول إن ما تروّج له الأنظمة ليس كذبًا مطلقًا، فهناك مسلحون في انتفاضة آذار 1991، وسلفيون متطرفون في 2013/2014، ومنحرفون في 2019؛ لكن اللعب يجري على النِسب، والتركيز على تغييب الأسئلة الجوهرية التي قد تُغري قاعدة السلطة الجماهيرية وإمكانية تأثرها بالمطالب الشعبية. وللمناسبة، بعض الأطراف التي تضخّمها السلطة تستفيد من ذلك التضخيم لإثبات وجودها، لذا فأن لجوء الأنظمة لتخوين الناس سلاح ذو حدين باتجاه واحد، فهي من جهة تُسيء للجماهير المنتفضة لتبرر قمعها، ومن جهة ثانية تقوّي شوكة الحركات النشاز في الجانب الشعبي.

توّجت الأحزاب الإسلامية حالة الهستيريا التي تعيشها للأسباب التي استعرضناها بعد حادثة كربلاء الأخيرة. لقد شعرت أن المتظاهرين يسرقون أداة الدين المستخدمة في السياسة. دخل المتظاهرون ملعبًا محرّمًا بالنسبة للأحزاب، فحملُ صور السياسيين والأعلام الحزبية والعسكرية ليس إقحامًا للسياسة بالدين بأعراف سلطة المحاصصة، لكن حمل صور شهداء تشرين والهتاف ضد أمريكا وإيران سلوكًا منحرفًا يسيء للزيارة!

لم تجد أحزاب السلطة الكثير مما "تبيعه" من كليشيهات للمتعاطفين والمؤيدين والناخبين. سوف يبقى الوطن بمقدساته وتأريخه وأبو نؤاسه ملكًا للشعب

 إن فقدان الشرعية مرتبطٌ بفقدان الشعبية والعكس صحيح، وكلاهما يتأثران بسؤال الجمهور، وفي الحالة العربية الجمهور المؤيد تحديدًا وليس عامته، لذا تجتهد السلطة في إيجاد أجوبة تشد قاعدتها الجماهيرية لها، ومن سوء حظ أحزاب السلطة العراقية أنها لم تجد الكثير مما "تبيعه" من كليشيهات للمتعاطفين والمؤيدين والناخبين. سوف يبقى الوطن بمقدساته وتأريخه وأبو نؤاسه ملكًا للشعب.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأجيال الجديدة: لحظة في وجه الذاكرة!

بـ"الدماء والغباء".. ذكرى احتجاج تحول لانتفاضة