05-أكتوبر-2020

(Getty)

إنها واحدة من تلك الصور المرسومة على نحو يجعل المرء يعتقد إن العينين تلاحقانه أينما تحرك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول "الأخ الأكبر يراقبك". جورج أورويل، رواية 1984.

دائمًا ما تكافح السرديات المزيّفة لضمان ديمومتها وتواصل أوهامها بين الناس. ولهذه السرديات جيش واسع الانتشار يعمل بالمجان! على سبيل المثال، صادفت أحد المدونين وهو يتكلم بيقين وطمأنينة من أن شباب تشرين (الحشاشون!) أدخلوا المخدرات إلى العراق وكانوا السبب الرئيسي في انتشاره. بالمناسبة، ليس بالضرورة أن يكون هذا المدون تكتريه بعض القوى السياسية، فالعبودية الطوعية لها عيّنات كثيرة في بلدنا.

المصيبة الكبيرة في سلطة الاستبداد الاجتماعي ونفوذها الغائر في الذاكرة ولهذه السلطة حرسها الأشداء وشرطتها المجانية

ولا تقتصر هذه العبودية على إدامة زخم السرديات المزيفة فحسب، بل يوهب روحه بالمجان إن تطلّب الأمر ذلك. أنت لا تقدم إهانة مجانية لنفسك إلّا بوجود شعور عميق لديك بالدونية. يتأصّل في ذاكرتك هذا الشعور بالتدريج حين ينعدم النموذج، فيغدو الخوف من المجهول سببًا مقنعًا للتمسك بهذه السرديات وتلميعها، والنفخ في روحها حتى تغدو جزءً لا يتجزأ من هويتنا الشخصية.

في أيام خدمتي العسكرية أثارت فضولي ظاهرة غريبة تتعلق بأحد الجنود. كلّما مررت بالقرب من سجن الوحدة العسكرية أجده متكورًا في أحدى زوايا هذا السجن الكئيب. لم تُصَمَّم هذه السجون لإطالة أمد المساجين بقدر ماهي سجون وقتية، يقضي فيها الجندي عقوبته القصيرة ثم يزاول نشاطاته العسكرية فيما بعد. لهذا السبب دفعني الفضول لأستفهم عن وضع هذا الجندي، فاتضح أنه يدخل إلى السجن طوعًا! لأنه اعتاد عليه ولا يمكنه الفكاك من هذه العادة المدمّرة، وتكلمت معه شخصيًا فأكّد لي نفس الرواية. وكلما تصادفني بعض المدونات الكفاحية في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقلل من قيم الأجيال الجديدة، يستحضرني هذا السجين المتطوع!

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: الموت من أجل الحياة

أكد لي بعض المؤمنين أن الأسباب التي تقف وراء هذا الانهيار الاقتصادي والسياسي والأخلاقي وغيره، هي ببساطة شديدة لأننا ابتعدنا عن الله، بتعبير أدق، لم نتوكل على الله لكي نغير نفوسنا. ورغم الطيبة والدوافع النقية التي تقف وراء هذا المقصد، إلا أنني فشلت في إقناعه أن عدد نفوس سكّان الكرة الأرضية سبعة مليارات نسمة وليس كلهم يدركون معنى التوكل الديني، وثمّة أسباب دنيوية عويصة ساهمت في هذا الخراب، لكن دون جدوى.

هذه الحكايات وغيرها تشكّل ذاكرة المجتمع ومخياله. وللأسف الشديد دائمًا ما تنتصر المرويات الشعبية على التفكير النقدي العقلاني في المجتمع العراقي. حتى إنك لا تستطيع المواصلة في حوارك "العقلاني" في الأحداث السياسية الكبرى. وفي نهاية المطاف تنتصر الأغلبية المستبدة، وتمارس عليك كل صنوف التخوين إن فكرت بمخالفتها والتغريد خارج سربها.

لقد انفتحت أبواب العالم على مصراعيه للأجيال الجديدة في عراق ما بعد صدام حسين. وأصبح هذا العالم الفسيح قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا المتطورة. هذا العالم الذي كنّا نقرأ أو نسمع عنه، وكنّا نتابع بدهشة قصص الغرب الأمريكي التي تنتجها هوليود. هذا أقصى ما وفرته لنا سلطة الاستبداد آنذاك، وفي تلك الأثناء كنّا مطمأنين لأساطير البعث وسردياته، حول نفسه والعالم، الموغلة في الذاكرة العراقية حتى هذه اللحظة، وكنّا مقتنعين بهذا الجزء اليسير من العالم! المهم في الأمر، لم تعد هذه الأجيال مقتنعة بما يحدث، فطرق التفكير والسلوكيات والأنماط الثقافية اختلفت. يتوزع الشباب العراقي اليوم في المقاهي العصرية، ومطاعم الوجبات السريعة، ومواقع التواصل الاجتماعي. ببساطة شديدة لم تعد الحياة التقليدية تشكّل حافزًا إيجابيًا لهذا الجيل الجديد من كلا الجنسين.

إذن ثمّة فارق جذري بين قصة صاحب السجن التي أسلفناها، وبين قصة جيل جديد يكتسح الثقافة التقليدية بقوة مصحوبة بتذمّر شديد ونزق في بعض الأحيان. صاحب السجن هو النموذج الأبرز لثقافتنا التقليدية التي أعلنت خصامها الطويل مع المجتمعات الحديثة. إنها مقتنعة تمام الاقتناع بما يحدث! فمن هنا يحتدم الصراع بين ثقافة تقليدية لا تؤتَمَن على مصالحها، وبين شباب المستقبل الذي يرون أنفسهم غير معنيين بهذا الانبطاح الغريب.

المصيبة الكبيرة في سلطة الاستبداد الاجتماعي ونفوذها الغائر في الذاكرة. ولهذه السلطة حرسها الأشداء وشرطتها المجانية. وهي تهيمن كليًا على السلطة السياسية كذلك. تكمن مصيبة هذه السلطة، في تخمينها الزائف واختزالها المضحك لهذا الجيل بالاحتجاجات فقط! كما لو أن الأمر بهذه البساطة: لمجرد قمع الاحتجاجات سيعود كل شيء لمكانه. في الحقيقة إن مهمة الشباب أكبر من تصورات السلطة السطحية؛ إنه جيل ثائر على سلطة الذاكرة القمعية، ولم تعد تعنيه مقولاتنا المتعفنة، جيل خرج من رحم آخر، لا يحترم سلطة "الأخ الأكبر"، كما وصفها جورج أورويل في روايته"1984"، هذه  السلطة الشمولية التي تحصي عليه أنفاسه وتعلمه ماهو الخطأ وما هو الصواب. فالقضية أكبر من احتجاج في ساحة التحرير! ولا تتموضع هنا فقط، بل هي انتفاضة على سلطة الذاكرة التقليدية. إن انتفاضة تشرين هي محاولة لتأسيس لحظة جديدة في ذاكرتنا المعطوبة، ومحاولة لهذا الجيل الجديد أن يكتب سرديته الخاصة ويصنع لحظته التاريخية بعيدًا عن أوهام السلطة وشرورها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين: كابوس السلطة الثقيل

عن انتفاضة تشرين في عامها الأول