04-مايو-2020

اختفت طقوس رمضان في العراق بسبب الأزمات (Getty)

لقد كان لشهر رمضان الكريم عبقًا وسحرًا خاصًا يخطف قلوب العراقيين والمسلمين كافة، حيث كانت الأجواء الروحانية لشهر رمضان تخيم على البيوت وتنمي فيها أواصر الأخوة والمحبة وصلة الأرحام، وتذوب فيها كل الخلافات والمشاحنات العائلية، وتصفو فيها النفوس، وتعم الرحمة والهدوء والطمأنينة على الجميع، أما موائد الأفطار، فقد كانت عامرة وتعج بأصناف الأكلات العراقية الشهية التي لها رائحة ومذاق خاص، تجمع حولها كل أفراد العائلة وربما بعض الضيوف والأحبة، أما تبادل أطباق الطعام بين الجيران، فكانت سمة يتميز بها هذا الشهر الفضيل دون غيره من الشهور، وبعد تناول الفطور والصلاة تبدأ العوائل بالخروج لزيارة المراقد المقدسة أو التوجه للمساجد للتعبد، وقراءة القرآن الكريم، أو التواصل مع الأقارب والأصدقاء، أو تجمع الشباب لحضور الفعاليات الخاصة بهذا الشهر الفضيل، ومنها الألعاب الرياضية والترفيهية والمسابقات الفكرية التي تضفي أشياء من البهجة والسعادة على نفوس الصائمين.

تركت احتجاجات تشرين التي راح ضحيتها العديد من الشهداء والجرحى أثرًا مؤلمًا لا يمكن معه الشعور بأي فرحة أو بهجة أو سرور

 لكن للأسف، بدأت تلك الممارسات والطقوس الجميلة تختفي تدريجيًا في ظل انتشار التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي بعد 2003 وتنوع المسلسلات والبرامج التلفزيونية، وهكذا أخذ شهر رمضان يفقد بريقهُ تدريجيًا لا سيما هذا العام في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها العالم بصورة عامة، والعراق بصورة خاصة، فاحتجاجات تشرين التي راح ضحيتها العديد من الشهداء والجرحى تركت أثرًا مؤلمًا لا يمكن معه الشعور بأي فرحة أو بهجة أو سرور، كيف ونحن نرى ونسمع عن معاناة عوائل الجرحى وعوائل الشهداء بعد فقدان المعيل لها أو أحد أحبتها، فدموع الأسى التي امتزجت مع طعام الأفطار أفقدته طعمه ونكهته، عوائل الشهداء ينظرون إلى مكان فقيدهم الخالي إلا من أريج ذكرياته الذي لا يغادر أبدًا، يواسون بعضهم بأنه حاضر معهم وهو حي يرزق، فتتحول تلك المائدة إلى مأتم يتقاسمون فيه القهر والأحزان.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟

وما حال تلك الزوجة التي تداري دموعها أمام أطفالها اليتامى الذين لا يملون من انتظار والدهم ليشاركهم طعام الأفطار بوجهه الباسم، وهو يحمل معه "حلوى رمضان" التي يحبونها، وتلك الأم التي تعودت أن تسأل ولدها الوحيد "ماذا تشتهي اليوم على الفطور يا حبيبي؟"، فيجيبها: "أحب البامية يا أمي"، لم يعد لمرق البامية نكهة هذا العام، فقد أصبحت بلون الدخان ورائحة البارود الذي يحيط بجثة ولدها المسجى بعدما نالته يد الغدر في ساحات الاعتصام.

واحدة من تلك الأمهات العظيمات هي والدة الشهيد "مهند وميض القيسي"، الذي استشهد في الخامس من شباط/فبراير 2020 بعد حرق خيامهم في ساحة اعتصام النجف، والتي أكملت بمسيرتها الثورية ما بدأ به ولدها البطل، فقد رفضت قلادة المرأة المثالية المقدمة من قناة الشرقية، إلا بعد تحقيق الأهداف التي خرجت من أجلها الثورة وراح ضحيتها قرابة 700 شهيد وآلاف الجرحى والقصاص من القتلة والمجرمين، ولزهدها بهذه الحياة الفانية، وإن لا شيء يعوض خسارة وحيدها الشهيد، فقد تبرعت بالمبلغ المالي المقدم لها من القناة إلى المتظاهرين.

ومما زاد الطين بلة، وفاقم المعاناة في هذا الشهر الفضيل، هو ظهور فيروس كورونا، وإجراءات خلية الأزمة للحد من انتشار الوباء، وذلك من خلال فرض حظر التجوال والتباعد الاجتماعي الذي منع من تواصل  الناس بشكل مباشر، وأكثر من تضرر من هذا الحظر هم أصحاب الدخل المحدود والفقراء لأنهم فقدوا أعمالهم التي يعتاشون عليها بشكل يومي، فهم لا يملكون المال الكافي ليسد فاقتهم ويحفظ كرامتهم.

وبسبب هذه الظروف الصعبة والضغوط المستمرة على الحكومة قررت الأخيرة صرف منحة طوارئ لكل فرد لا يملك أي مرتب مالي، بمبلغ لا يتجاوز 30 ألف دينار، والذي أثار سخرية الناس وسخطهم وبدد آمالهم، وكما يقول الكاتب ممدوح عدوان، إن "الجوع هو الذي يهدم كبرياء الناس فيتخلون عن كل ما يعتزون به: الكبرياء والكرامة والشرف والأرض والانتماء للأهل والقبيلة والدين والوطن، هذا ما يفعله الجوع، ولكن هذا يفعله الخوف أيضًا، والناس خائفون وجائعون في الوقت ذاته". فهذه المنحة التي لا تسمن ولا تغني من جوع لم تصرف إلى الآن، وإن صرفت ستذهب لجيوب المزورين والمتلاعبين كما يحدث في كل مرة، وما للفقير سوى الله وجهود بعض الخيرين من الناشطين والمتطوعين الذين يمدون يد العون والمساعدة لبعض العوائل المتعففة، إلا أنها لا تسد حاجة الملايين من العراقيين أصحاب الدخل المحدود، والذين حُرموا من مزاولة أعمالهم، كل هذه الظروف مجتمعة أدت إلى أن يكون رمضان هذا العام مختلف عن باقي الأعوام.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قراءة في الحراك التشريني

دستورنا المنتهك