أن تكون في مجتمعٍ تحيط بهِ الأصنام من كل حدبٍ وصوب، وتكثر فيه الخطوط الحمراء للرموز المقدسة، فأن ذلك يدعوك إلى قراءة كتاب عالم الاجتماع العراقي عبد الجليل الطاهر (1917 -1971)، الموسوم بعنوان "أصنام المجتمع.. بحث في التحيز والتعصب والنفاق الاجتماعي" الصادر عن "المركز الأكاديمي للأبحاث"، والمتكون من ستة فصول.
ربما يتساءل القارئ عن الأسباب التي تجعل عالمًا مثل عبد الجليل الطاهر يغيب عن ذاكرة العراقيين بينما هو من طراز عالم الاجتماع علي الوردي وأقرانه
وربما يتساءل القارئ، عن السبب الذي يجعل عالم مثل الطاهر، يغيب عن ذاكرة أغلب العراقيين بينما هو يعد من طراز علي الوردي وعلماء الاجتماع العراقيين، بل عده بعض الباحثين الأول أكاديميًا، حيث ساهم مع الدكتور علي الوردي في نشر بذور علم الاجتماع الحديث في العراق ووضعوا اللبنات الأولى لدراسة الظواهر الاجتماعية في الريف والصحراء والمجتمع الحضري.
اقرأ/ي أيضًا: فوزي كريم.. الشاعر هو ذلك القلب المفكّر
يرى الكاتب كامل عبد الرحيم أن "غياب نجم الطاهر يرجع إلى موقفه الفكري وابتعاده عن الحزب الشيوعي ونقده للتجربة الستالينية؛ مما أدى إلى ضياع جهده العلمي جراء التعتيم والتهميش المتعمد من قِبَلِ السلطة السياسية آنذاك، وكما هو معروف فان الناس على دين ملوكها".
حينما تقرا الكتاب تجد نفسك إزاء لغة سلسلة غير متكلفة بعيدة عن التعقيد والتزويق اللفظي، وقد اجتهد الطاهر في أن يجعلها مناسبة لكل قارئ مهما كان مستواه الثقافي.
تناول صاحب كتاب "المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة" الوضعية الصنمية، متجاوزًا تعريف ابن الكلبي في كتابه الأصنام إذ عرفها "شيوع بعض الأوهام، والأساطير، والفِكَر المغلوطة، التي لا تخضع للبحث العلمي، والمنطق، فيتعصب لها الإنسان ويتحيز فتؤثر في كل وجوه حياته الفكرية، فتقيد عقله وتحدده"، وشخَّصَ الطاهر الأرضيّة التي ينشط فيها ظهور الأصنام حيث أنها تظهر في نوعين من المجتمعات: المجتمع البدائي سهل التركيب حيث تكون الروابط الدموية هي أساس كل التقسيم الاجتماعي، والمجتمع الدكتاتوري التسلطي حينما لا يكون للفرد شأن يذكر.
أشار الطاهر في الوقت ذاته إلى استحالة أن يتَشَكَّلَ الصنم عن طريق حرية الرأي، والتعبير، والمناقشة والجدل، والإقناع. وهذا ما يجعل الدين يدخل على الخط حينما يدعي رجاله القداسة وعدم مناقشة أي رأي يصدر من قبلهم حينما يرفعون شعار "في الجيش نفذ ثم ناقش، في الدين نفذ ولا تناقش"، إذًا فإنَّ قيامَ الصنمِ بحسب صاحب كتاب "التفسير الاجتماعي للجريمة" يتطلب قبل ذلك وجود المحرمات والنواهي والأوامر التي يستجيب لها الأفراد دون أن يقدروا على مناقشتها وتحليلها ونقدها.
ويضع الطاهر الظواهر الصنمية على خشبة التشريح، محللًا ومفككًا أجزائها وأسسها الوجودية وأهم العوامل التي بلورت ظهورها، بعد ذلك يتوصل إلى العامل المشترك الأهم بين كل صنم، عندها يضع الدواء الناجع الذي يبث الحياة في عقول الجماهير والتي بدورها تعرف ضحالة ما تعبد وتقدس فيقول صاحب كتاب "أصول فلسفة الطبقة الوسطى" إنه "لا يمكن أن يتكون صنم اجتماعي عن طريق حرية الرأي والتعبير، والمناقشة، والجدل والاقناع، والاعتقاد، وانما باستعمال القوة والزجر والدعاية الكاذبة والتزكية والسلوك الحربائي الرعراعي".
يرى الكاتب كامل عبد الرحيم أن غياب نجم الطاهر يرجع إلى موقفه الفكري وابتعاده عن الحزب الشيوعي ونقده للتجربة الستالينية، مما أدى إلى ضياع جهده العلمي جراء التعتيم والتهميش المتعمد
وفي نهاية الكتاب يؤكد الطاهر باستحالة وجود مجتمع خالٍ من الاصنام الاجتماعية في ظل وجود رقابة على الأفكار مما يجعل الجماهير تسير مثل القطيع دون أن تعرف إلى أين تتجه حيث يؤكد الطاهر أن "السبيل الوحيد لتحقيق الوصول إلى مجتمعٍ من دون أصنام، هو طريق الحرية الفكرية، والمناقشة والجدل، والتناقض حتى لا يكون الأفراد عبيد الفكر، وأوهام وأصنامٍ لا تخضع للبحث العلمي والمنطق.. حيث يتساءل الطاهر عن مقايس الحقيقة لدى الفلاسفة فيجيب "تعتمد المقاييس على التناقض والجدل والمناقشة. فكأنما أراد الله أن يجعل الحقيقة مكافأةً للمناقشة واختلاف الرأي".
اقرأ/ي أيضًا: أن تقرأ كتاب الطائفية لعزمي بشارة من العراق
"ألترا عراق" أعد لكم مجموعة من الاقتباسات التي تضمنها الكتاب عبد الجليل الطاهر "أصنام المجتمع":
- الخطر كل الخطر، أن تتغلغل قدسية الأصنام في ضمائر الناس وعقولهم، وأن تدور حولها الخرافات والأساطير، حتى تغدوا بنظر المنافقين والسذج من الناس أنها جزء لا يتجزأ من تكوين المجتمع، وإن وجودها شرط أساسي، لإحلال التضامن بين أفراد المجتمع، وإحكام التوازن بين الفئات الاجتماعية المتعارضة.
- إن البحث في أثر الأصنام في المعرفة من أقدس واجبات المتعلم، حيث يجب عليه أن يتعقب أصول المزالق حتى تسلم المعرفة من الشوائب والنقائص، ويتخلص الإنسان من كل أنواع التحيز، والتعصب والأنانية، فيرى الحقيقة الواقعية ناصعة منعزلة عن كل ما يلتصق بها من أحكام ذاتية.
- كلما قرأ الإنسان كتابًا تنتج خفة عظيمة في عقله، يتجرد من خلالها من الأصنام التي كانت محيطة به.
- من خصائص الصنم أن يجزئ الأمة، وأن يغذي التنافر والتباغض، حيث يضطر الأفراد إلى أن يدافعوا عن أوهامهم وأصنامهم، وأن يعملوا على تقويض أصنام الآخرين وتبديد أوهامهم.
- إذا تعاونت السلطة والأصنام في القضاء على الحرية، فإنهم يمهدون لطريق ظهور النفاق والرياء والخداع والحيلة.
- من مصلحة الأصنام ألا تنشر المعرفة العلمية، وألا يشيع العلم حتى يبقى الناس متعصبين لمجموعة من الأوهام والخرافات التي تضع حجابًا كثيفًا على بصائرهم فتحول دون الوصول إلى المعرفة الواقعية.
- يختلف "المثقف الحقيقي" عن المهرج أو المهيج إذ يتصف "المثقف" بعدم تحيزه، وعدم تعصبه لبعضٍ من الأوهام، لأنه يبدأ في مناقشة الأوهام التي يعتنقها هو نفسه، ليكون حذرًا ويقظًا من تأثيرها في الحقائق التي يجمعها، ويصنفها ويشرحها، ويفسرها ويحللها ويعرضها.
- ينذر "المثقف" حياته لخدمة المعرفة وحدها، من دون أن يستخدمها لمصلحة صنمٍ أو سدنة أو فئة أو مقطعٍ بعكس "المتعلم" الذي وهب إنتاجه العقلي لترويج نوع من الدعاية، أو وقف قلمه على الدفاع عن أوهامٍ خاصة تنشر السموم في جسم الأمة، وتوسع شقّة الخلاف بين أبنائها.
- إذا كانت البطون جائعةً، والجسم عاريًا، احتاج الإنسان إلى الأوهام والأخيلة التي تبرر وضعًا من دون طعام ومن دون لباسٍ، أو تعد الإنسان بإمكانية التلذذ بالطعام واللباس في الدنيا والآخرة؛ فإذا تحسنت ظروفه المعاشية فسوف يتحرر من أوهامه وخرافاته.
اقرأ/ي أيضًا: