30-أبريل-2021

دفاع عن العفوية (فيسبوك)

لم يكن على عاتق ثورات العصر الحديث أن تنجز مهامًا ثورية مباشرة على شكل النظام السياسي، ومنذ ثورة الطلاب الفرنسيين 1968 مرورًا بثورات ما يعرف بـ"الربيع العربي" في جميع موجاته، لأسباب بنيوية تتعلق بالبنى الثقافية لعصر تفكّكت فيه نمط الأيديولوجيات الصلبة التي أنتجها عصر الحداثة في الغرب، حيث أن الأيديولوجيا كانت هي الرباط الصلب الذي يحتشد داخله المحتجين والثوريين للمطالبة بالحقوق. توفر الأيديولوجيا مطلبين حاسمين في أي احتجاج تقليدي؛ البيان السياسي الذي يتحول إلى صور وشعارات للمطالبة بالحقوق، وكذلك؛ يوفر لهم مطلب التنظيم الأداتي الذي يعمل كأداة توجيه للثورة، هذا سياق تاريخي يهمنا للمقارنة واستقراء الواقع الموضوعي عندنا، إذًا، عصر بلا إيديولوجيات هو عصر العفوية بالنسبة للثورات والاحتجاجات، ثورات عفوية لا تنتج انقلابًا سياسيًا آنياً بالضرورة، لكنها قد تتركنا أمام واقع موضوعي جديد وتصورات جديدة، وهذا هو نمط ثورات المنطقة منذ الربيع العربي إلى ثورة تشرين العراقية، عقد من الثورات متناقضة كليًا في مستوى خطابها، إلا أن قاسمها المشترك الوحيد هو العفوية، إذًا، ماذا يعني أن نصنع تصورات سلبية تجاه "العفوية"؟! إذا اتفقنا بأن هذا النمط من الاحتجاج يترك آثاره الثقافية العميقة على المستوى الثقافي والاجتماعي.

التنظيم السياسي لتشرين

في الثورة العفوية مثل ثورة الأول من تشرين الأول/أكتوبر العراقية، كان يواجه الثورة والقضايا التي انبثقت داخلها سؤال طُرح بشدة عن تنظيم أنفسنا سياسيًا، فحين يكون الفعل الاحتجاجي بلا أبّ سياسي، يصبح مصدر قلقل لأي سلطة، لذلك تواجه الساحات دومًا بسؤال التنظيم السياسي للاحتجاجات والجهات التي تقف خلفها من جهة وتهمة "الخيانة"، أو من الذي يقف خلفها من جهة أخرى، كانت الغاية تحويل الشعلة الاحتجاجية التي لم تستطع العملية السياسية احتواءها إلى أرقام انتخابية، وجه زعيم التيار الصدري في إحدى تغريداته قائلًا ما معناه إن "هذه الحكومة استقالت وهذا مطلب حققته (المرجعية) وأنتم أيها "المغرر بكم" أتركوا الساحات واتجهوا لتنظيم أنفسكم للانتخابات". الحرج الكبير الذي وجهه الشباب المحتج بأنهم خارج الأطر التقليدية للاحتجاج، وكذلك خارج أطر المعادلة السياسية التي أحيانًا تنتج خصومها من داخلها، ولكن هذه المرة، خصوم العملية السياسية من خارجها، وهذا حرج آخر وضعته لحظة تشرين أمام السلطات وأحزابها، كانت غاية السلطة وما زالت جعل الجمهور المحتج، والذي ما زال يعيش أجواء الاحتجاج ضمن أطر العملية السياسية، وهذا كما أعتقد أخطر ما يواجه الحركة الاحتجاجية الآن.

 قطيعة إيجابية محركها التضامن

سلكت القوى السياسية بعد عام 2003 في بناءها للعملية السياسية سلوكًا "غنائميًا"، تقسيم البلد إلى باركات تشكّل مساحات آمنة لكل طائفة وقومية تتحكم بها من خلال رمزياتها الطائفية، فكانت العملية السياسية فوق السياسة كمفهوم وعمل وخارج أطرها، استعمرت هذه القوى كل محركات السياسة وحولتها إلى هياكل خالية من معانيها الجوهرية، فالنتيجة واحدة في كل انتخابات، وهي أن لهذا البارك آباءه ومراقبيه وحراسه الذين هم ميليشياته! فنحن نتحدث عن نمط من الحكم خارج أطر السياسة كمفهوم، وهذا يمتنع بذاته عن منافسته سياسيًا من خلال الانتخابات، أما عن الخطر الذي يواجه المحتجين غايته استدراجهم إلى النمط السياسي هذا، فيكون ضمن ردة الفعل والحسابات السياسية الآنية، جر الفاعلين الاحتجاجيين إلى نمط السياسة الموجود، والمتواتر خطر يهدّد فكرة الاحتجاج بذاته ويمنع تطورها إلى أنماط إحتجاجية أكثر تأثيرًا. ما أعتقده أن فكرة التنظيم يجب أن تنصب على صناعة علاقات محورها التضامن مع الفئات المحتجة تنتج علاقات تواصلية من خلال آليات يتم اختيارها وتجريبها، برأيي هذا هو الفعل الثوري الأهم، والذي يتساوق مع ما تفكر فيه الثقافة السياسية التي أنتجت ما بعد لحظة تشرين.

من السلاح إلى استعادة السياسة

إذا ما أراد أي تنظيم أن يطرح موضوع الانتخابات في العراق على مشرط البحث والنقاش، عليه أن يبدأ بسؤال هو ينبع من الشرط الموضوعي الآني والمستمر، وهو هل باستطاعة الانتخابات التي هي مُستعمرة من قبل قوى الباركات المسلحة أن تسقط السلاح وتستعيد فعلًا سياسيًا مضادًا للعنف؟ ولا أظن أن الانتخابات قادرة على استعادة الفعل السياسي لعدة أسباب، أهمها أن الانتخابات بشكلها المعروف عندنا مُستعمرة من قبل الباركات المسلحة، هم وحدهم من يضعون شروط الانتخابات وعلاقاتها، فالانتخابات أسيرة لهذه القوى ولشروطها، ولذلك أرى في فكرة بناء تنظيمات أفقية خارج الأطر السياسية المعروفة تعمل بآليات عقلانية بعيدة عن الشعبوية تحقق تواصلًا عقلانيًا مع شتى الفئات الثقافية، وتضغط بشكل راديكالي من خارج العملية السياسية، هو ما يعمل على استعادة الفعل السياسي، فتخرج المواقف التي تبتغي مقاطعة الانتخابات من شأنها الشخصي لتتحول إلى شأن عام له موقفه الواضح من العملية السياسية، وهذا النمط يخرج الراديكالية في المعارضة من سلبيتها ليدخلها كفعل إيجابي واعي لضروراته، كذلك، فإن هذا  النشاط له مناخاته التي ربما تؤثر حتى في  قوى من داخل النظام.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العلاقة بين المجتمع والنخبة: محاولة للفهم

قوافل المغدورين