معلوم أن التغييرات الكبرى هي تغييرات سياسية أولًا وبالذات. كل الأفكار النبيلة والتطلعات المشروعة والأهداف التي شغلت كبار المصلحين، لم ترَ النور لولا ترجمتها على أرض الواقع عبر الممارسة السياسية. في الدولة الحديثة لا يتحقق شيء إلّا بقرار سياسي، حتى الاكتشافات العلمية لا يمكنها أخذ مكانها اللازم لولا توفير مؤسسات ضخمة ومناخ قانوني ينظم هذا الحقل الواسع. فمن يعوّل على المجتمع لوحده في التغييرات الكبرى فقد يكون جانب الصواب. فالمجتمع هو نتاج علاقة مستمرة، والنخبة التي يقع على عاتقها تنظيم شؤون المجتمع، هي نتاج علاقة مستمرة. وكلا الاثنين لا يتفاضلان إلا من حيث الظواهر الشكلية. في قلب الأشياء يصعب الاهتداء إلى جوهر قائم بذاته؛ العالم مجموعة هائلة من العلاقات الاعتمادية. بالطبع لا يعني هنا نفي الأدوار الريادية للمجتمع والنظر إليه كفاعل سلبي بالمطلق، بل المقصود بالتحديد، أن المجتمع لا يمكنه أخذ دوره الريادي بالتغيير ما لم تضبط إيقاعه النخبة السياسية المستنيرة، النخبة التي دخلت في علاقة جوهرية مع المجتمع، لا أن تكون صورة طبق الأصل، فإذا تطابقت الصورة انتفت العلاقة المثمرة بين الاثنين. وإذا تطابقت الصورة حلّت الكارثة! وسيعيد الجهل والطغيان إنتاج نفسه في كل مرّة حتى وإن اختلفت الأشكال، فالمضامين واحدة. وقد تبدو وجهات النظر التي تعاكس هذه النظرة هي وجهات نظر لا تاريخية على الأرجح.
على النخبة السياسية أن تترجم آمال الجماهير على شكل بنود سياسية قابلة للتطبيق
ولكي تتضح العلاقة الجوهرية بين المجتمع والنخبة، لا بد من التركيز على الحقيقة التالية: إن العلاقة بين المجتمع والنخبة هي علاقة اعتمادية بالضرورة، بحيث من الاستحالة بمكان الفصل بين الاثنين، أو الانحياز إلى جهة معينة باعتبارها النقطة المرجعية الكبرى. بمعنى أكثر دقّة، لا ننظر لهذه الثنائية على أنها ثنائية تقابل بين نقيضين، وإنما ثنائية تركيبية، بحيث ينعدم فيها مفهوم السبب والنتيجة، أي السابق واللاحق. لذلك نركّز على هذه الحقيقة التالية، لولا هذا لم يكن ذاك، ولولا ذاك لم يكن هذا. فالمجتمع والنخبة هما نتاج كينونة مترابطة، مادة تركيبية، يعتمد كل منهما على أواصر علاقة تنبثق من خلال التفاعل المستمر بينهما. وحينما نقدم أحدهما على الآخر، على سبيل المثال حينما نقدّم النخبة على المجتمع، فلا يعني نكران الدور الريادي للمجتمع كقوة تنفيذية هائلة لتحقيق التغيير.
اقرأ/ي أيضًا: قوافل المغدورين
إن المفاضلة التي تحدث، مثل تقديم النخبة على المجتمع، هي مفاضلة من حيث العلّة القريبة كما يقولون، أما من ناحية العلّة البعيدة فالعلاقة البينية حاضرة. بمعنى آخر، في عالم النسبية تتمايز الأشياء بلا أدنى شك، وتتقدم من حيث التراتب الهرمي، إذ لا يمكن المساواة بين كل فئات المجتمع، من ناحية الإمكانيات الذهنية، بحجة العلاقة الاعتمادية بينهما. لكن ما يبرر ذلك، أن هذه المقالة القصيرة مكرّسة لمفهوم التغيير، والنظر إلى التغيير الاجتماعي، وليس الحياة الفردية والتفاضل بين فرد وآخر، فهذا موضوع آخر تمامًا. مختصر القول: إن ما يعنيني هو تعلّم التفكير وفهم العلاقة بين المجتمع والنخبة.
لكن ماذا لو فقدت هذه العلاقة إحدى أواصرها، فليكن مثلا النخبة، أي أنها تفتقد إلى أحد الشروط الجوهرية لتركيب أي ظاهرة جديدة. ذلك أن العلاقة بين النخب السياسية والمجتمع الثائر أنتج ظاهرة سياسية واجتماعية كبرى وهي الثورة الفرنسية. وهذه الأخيرة أنتجت لنا ظاهرة أكبر تُعد بمنزلة النتيجة وهي الدولة الفرنسية التي أعلنت لاحقًا خطوطها العرضية وفلسفتها السياسية والاجتماعية عن طريق اللائحة الشهيرة لحقوق الإنسان. فلا أظن أن أحدنا يجرؤ بالقول إن الثورة الفرنسية كان بالإمكان أن تأخذ مسارها من دون هذه العلاقة الاعتمادية، أعني العلاقة بين المجتمع والنخبة على العكس من ذلك: إن فقدان أحد هذه الأواصر يحيل العملية السياسية والاجتماعية برمتها إلى فوضى سياسية واجتماعية عارمة.
حينما نقول علاقة، فلابد أن يجتمع فيها شرط جوهري؛ فعلى سبيل المثال، على النخبة السياسية أن تترجم آمال الجماهير على شكل بنود سياسية قابلة للتطبيق. حينما يطالب العراقيون، على سبيل المثال، بوطن يجمعهم، ودولة ذات مؤسسات، وتداول سلمي للسلطة، فعلى النخبة السياسية أن تترجم هذه المطالب إلى ممارسة سياسية، لكي يصدق على هذه العلاقة أنها علاقة اعتمادية ينبغي أن تكون كذلك، بينما ما نشاهده في مشرقنا العربي عمومًا وفي العراق على وجه الخصوص، أن العلاقة بين الاثنين علاقة العالي بالداني، الشيخ بالمريد، السيد بالعبد، الراعي بالقطيع. فمن هنا ظل المجتمع (كفاعل سياسي) عبارة عن كتل بشرية مستبدة تنقضّ عليك متى ما سنحت لها الفرصة، تنعدم فيها كل أسباب الخير والجمال والاعتراف بالآخر. لأنها جموع بشرية فقدت هذه العلاقة منذ عقود، وأمست جموعًا بشرية مُنفَلتة لا تُؤتَمَن حتّى على مصالحها. فتتحول إلى ذرات شاردة فقدت آصرتها التساهمية، فهي للخراب أقرب منها للبناء، وللاستبداد أقرب منها لتقبّل الآراء. إن المجتمع الذي يفتقر إلى نخبة تعمل على تدشين علاقة مثمرة بينها وبينه، فستتحول هذه النخبة -إن عاجلًا أو آجلًا- كذلك إلى صورة متشابهة طبق الأصل عن المجتمع. إن المجتمع المستبد يخلق نخبة سياسية طبقًا لصورته مالم يدخل في علاقة تكاملية اعتمادية مع النخبة.
فبخلاف ذلك ستتحول هذه العلاقة إلى علاقة تضاد شديد الانحراف. وهذا هو نوع العلاقة الوحيد الذي يشهده المجتمع العراقي. إذن، علاقة الاعتماد المتبادل، التي يتكامل كل من الطرفين ويعتمد على الآخر، هي علاقة منتجة بحق. أما علاقة التضاد، النفور من بعضها، هي علاقة تدمير وانهيار، تنتج لنا مجتمعًا ونخبة متشابهان من حيث الآليات والأهداف، لذلك لا نستغرب أن نخبنا تشبه إلى حد كبير مجتمعنا من حيث الأساليب والأليات: إنهما منسجمان في هذا، إنها وراثة مستمرة لا تنقطع أواصرها إلا من خلال الاعتراف من إننا لا نُحسن العلاقة فيما بيننا، أعداء مع بعضنا البعض، حرب الكل ضد الكل.
اقرأ/ي أيضًا: