26-أبريل-2021

تعكس حادثة سعدي يوسف وجهًا آخر للطغيان بحجة الدفاع عن القيم (فيسبوك)

بالتحقيق مع عبد الشافي رمضان، أعلن أنه قتل فرج فودة بسبب فتوى الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد في عام 1986. فلما سؤل من أي كتبه عرف أنه مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب. جريدة الاتحاد. 

وأنتم النخبة أولى بمثل هذه المواقف السامية التي يزخر بها تاريخنا وحكاياتنا، وتختزنها موسوعاتنا وسِيَرُ أئمتنا من ردّ الإساءة بالإحسان في موقف الضيق. إساءات سعدي كثيرة طالت إحداها السيد السيستاني وأحسب أن لو طُلب من المرجع رعايته مريضًا لرعاه، وقبله رعى النبي (ص) الشاعر كعب بن زهير بعد الهجاء الذي رمى به النبي (ص)، وغير هذه القصص كثير ممّا يبني أخلاق التسامح ويرقّيها على أخلاق النقمة والانتقام.  وأحسب أن الدولة لو تحاسب على المواقف السيئة لكبار شعرائها لكان علينا أن نحطم تمثال الرصافي وسط بغداد لأن مواقفه الطائفية السيئة وكتابته عن النبي (ص) قذرة بكلّ معنى الكلمة، ولا تقلّ عن مواقف سعدي حقدًا. د. حسن ناظم-وزير الثقافة العراقي

بين الحين والآخر تنشط بعض الفئات على حدث ما وتبدأ الأصوات بالصراخ الهستيري على قضية ربما لم يطّلعوا على حيثياتها، مثل قضية الشاعر العراقي سعدي يوسف، وتمتلأ الميديا بجيوش المحللين والعاطلين.  ويبدو أن الجعجعة لا تتعلّق بشاعر بلغ أرذل العمر وتورّط ببعض الهذيانات بقدر ما تتعلّق بتأصيل روح الاستبداد ومغازلتها بحجة الدفاع عن القيم. بالطبع لكل منا حق الرد والتحفظ على هذيانات الشاعر سعدي يوسف. ولقد تلقينا، نحن العراقيين، من الإهانات ما يكفي من قبل السلطة السياسية الحاكمة، وبالكاد نشعر أننا بشر أسوياء. وقد يتفق معي الكثير أن التعايش مع جحيم الصيف العراقي اللاهب هو من أشد الإهانات التي تقدمه حكومة لشعبها بعد 17 عامًا من الوعود الزائفة. على أي حال، تحاول بعض الفئات إقناعنا أن هذا الشاعر جرح وجدانها لأنه أساء لشخص النبي وزوجته أم المؤمنين في قصيدة له يبدأ مطلعها: "طِلْعَت الشُمّيسة، على شَعَرْ عيشة، عبشه بنت الباشا، تِلْعَبْ بالخرْخاشةْ!"، وهي بحق إساءة تستفز الوجدان الديني، وفي يومها كتب المثقفون ردًا على هذا التصرّف الأحمق، والذي يُعَدُ سقطة من سقطات هذا الشاعر، وهي ليست وليدة اليوم.

لقد تحفّظ الألمانيون على فيلسوفهم الشهير مارتن هيدغر وتورطه في بدايات شباب مع النازية. لكنّه لم يطلب اللجوء إلى دولة أخرى، ولم يتجنّس بأي جنسية غير الألمانية

 فالقضية هنا، وما تكرّسه هذه المقالة، ليس الدفاع المستميت عن هذا الشاعر وعن ما تفوّه به في أواخر عمره، فمثلما قلنا أن الرد و التحفظ على هذه الأفعال حق طبيعي؛ فيمكن للمهتمّين بالشأن العام أن يضعوا لهم مكانًا يتمايزون فيه عن السلوك البربري ويردون على هذا الشاعر ويتحفظون على ما تفوّه به. لكن القضية في مكان آخر؛ إن هذه الجموع المتقلبة تحتاج بين فترة وأخرى حدثًا يلهمها ويعزز روح الطغيان في أعماقها. إن هذه الجماهير المستبدة في عطش دائم لأي مثير خارجي يستنهض ذلك المستبد القابع في أعماقها. إن قضية سعدي يوسف قضية المثقفين بالمقام الأول، أما ما رأيناه  من ردود أفعال في مواقع التواصل الاجتماعي لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بهذا الحدث، وعلى الأرجح أنهم لم يطّلعوا على تخبطات هذا الشاعر لولا إثارة وزير الثقافة حسن ناظم تفاصيل الحكاية على صفحته الشخصية، اللهم إلا المشتغلين في حقل الثقافة، وجمهور القرّاء. نعم ثمة من برّر لهذه الهجمة المضادة كون الشاعر تورط أيضًا بالتجاوز على السيد السيستاني، لكن السيد السيستاني هو أولى بالرد لو أراد ذلك، ولم يكلف الرجل أحدًا لينوب عنه في مثل هذا الموقف.

اقرأ/ي أيضًا: رغبة الثقافة بالاهتمام بسعدي يوسف تفجّر جدلية "الفصل بين نتاج الأديب ومواقفه"

لقد تحفّظ الألمانيون على فيلسوفهم الشهير مارتن هيدغر وتورطه في بدايات شباب مع النازية. لكنّه لم يطلب اللجوء إلى دولة أخرى، ولم يتجنّس بأي جنسية غير الألمانية، بمعنى أنه ظل قرير العين يدخن الغليون مع أصدقائه الفلاحين في كوخه الريفي الوديع وسط الغابة السوداء. فالألمانيون يعرفون سعة فكر هيدغر وعظمته باعتباره من أعظم فلاسفة القرن العشرين، ولا زال كتابه الأبرز "الكينونة والزمان" شاهدًا على عظمة هذا الرجل، الذي تورّط في يوم ما وخالط فكره بعض من ألواث النازية! إن الدولة الألمانية بمؤسساتها المدنية الراسخة، وتاريخها العريق، ومكانتها العظيمة بين الأمم، لم تتورط بألاعيب شخصية، ولم توظف الدين للسياسة، ولم تجعل من سقطة فيلسوف بحجم هيدغر دعاية انتخابية! نال النازيون جزائهم العادل، ونال هيدغر نصيبه من العظمة والمجد، فمات قرير العين بهذا المنجز الفلسفي العظيم، ومن حسن الحظ لم تكن ثمة مواقع للتواصل الاجتماعي وقتذاك، وإلا سيغدو هدفًا للعاطلين عن العمل.

 لا تتعلق المقارنة هنا بين سعدي وهيدغر، وإنما تتعلق بين ثقافة اجتماعية تدرك جيدًا قيمة مثقفيها حتى وإن انحرفوا عن الطريق وبدرت منهم بعض الترهّات في فترة تاريخية معينة، وثقافة تربّت على قيم الاستبداد وكراهية التسامح، واحتقار النسيان! لدي شعور أن من تهكّموا وبالغوا بالردود على وزير الثقافة، ربما هم أنفسهم من يهذرون ليل نهار بهذه العبارة "العَلمانية هي الحل"! ثمّة مفارقة مؤلمة: كلا الشخصيتين (وزير الثقافة والشاعر العراقي) ساهما برفد الثقافة العراقية، وكلاهما أصبحا حطبًا لاستبداد الرأي العام. وعلى الرغم من المقدمة التوضيحية الطويلة التي كتبها وزير الثقافة عن ترّهات الشاعر العراقي، وعلى الرغم من اعتذاره لاحقًا (ممّا أثار السخط عليه مضاعفًا!)، لكنّه ظل مُتّهَمًا في الحالتين؛ كيف لا وهو يدعو إلى التسامح والاعتراف بالآخر لكي تنجح الدولة العراقية (ولو مرّة واحدة) بتقديم النموذج الواضح للدولة التي تأبّى أن تأكل أبناءها حتى وإن أخطأوا بحقها.

 هذه الظاهرة تصلح أن تكون مادة تحليلية ونموذج تفسيري لسياقنا الثقافي الذي يأبى إلّا أن يكافح وينتصر لقيم الاستبداد. مرة أخرى: القضية لا تتعلّق بسعدي يوسف، وإنما تتعلّق بذلك الشيخ المستبد المتغلغل في أعماقنا طالما غذيّناه وسهرنا عليه ودافعنا عنه بحجج واهية، وأورثناه للأجيال اللاحقة بكل أمانة! وها هو اليوم يعكس وجهًا آخر للطغيان بحجة الدفاع عن القيم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد رفض سائرون و"كتلة العصائب".. وزير الثقافة يعتذر عن طلب رعاية سعدي يوسف

رؤى من سعدي يوسف وإليه

دلالات: