23-أبريل-2022
ماركيز

ظل ماركيز عارفًا حدوده السياسية (فيسبوك)

لم يستثني الأديب السويسري جوتفيرد كيلر أي جانب من جوانب الحياة عندما أطلق مقولته الشهيرة "كل شيء سياسة"، فالسياسة تؤثر بكل مفاصل المجتمع، لا سيما بالأدب تلك المرآة التي تعكس الواقع الاجتماعي لأي بلد، و على مر العصور ظلّت العلاقة بين الأدب والسياسة مختلفة من كاتب لآخر حسب توجهاته، تارة تمس روحه الإنسانية وأخرى تحافظ عليها، فالكاتب ابن بيئته يتأثر وينخرط في ظروف مجتمعه شاء أم أبى، وخير نموذج الذي لم يُسلّط الضوء كثيرًا على دوره السياسي الفاعل الكاتب غابريل غارسيا ماركيز أو غابو، كما يسميه الناطقون بالإسبانية. 

يرى ماركيز أنّ  المواقف السياسية ستنعكس على كتابات الكاتب دون أن يشعر وتؤثر كذلك في قرائه

بدأ ماركيز والفائز بنوبل للآداب 1980 مؤرخًا سياسيًا أكثر من كونه أديبًا في أعماله التي قدمها للجمهور على مدى خمسة عقود والتي ترجمت إلى عدة لغات، فصاحب الرواية الأكثر شهرة (مائة عام من العزلة) وجد نفسه في المنطقة الأكثر ارتباكًا في العالم آنذاك، فأصبح والعديد من معاصريه من الأدباء أمثال إيزابيل اليندي ونيرودا وماريو فارغاس يوسا ينغمسون أكثر في السياسة.

كان الفنانون والأدباء اللاتينيون الرموز الأكثر تأثيرًا في التغييرات السياسية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد تعرض العديد منهم بسبب شجاعته وانتقاده للأنظمة الديكتاتورية إلى عمليات تعذيب مثل التشيلي فيكتور جارا الذي قتل أثناء ديكتاتورية أوغستو بينوشيه، أما الآخرون وبضمنهم ماركيز وجدو أنفسهم غرباء في بلدانهم، فجابوا العالم بحثًا عن اليوتوبيا المفقودة.

الأدب كسلاح

في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيويورك تايمز عام 1988 أشار ماركيز إلى أنه على الرغم من ضرورة عدم استخدام الأدب كسلاح، إلا أنّ المواقف السياسية ستنعكس على كتابات الكاتب دون أن يشعر وتؤثر في قرائه، في إشارة للتأثير السياسي لأعماله التي ساعدت على خلق هوية لأمريكا اللاتينية، حيث أصبح الأمريكيون اللاتينيون بفضله أكثر حرصًا على ثقافتهم.

وكان لماركيز مواقفًا مشددة من الإمبريالية، حيث شكك بكل نوايا الأمريكيين الشماليين المتعلقة ببلاده، وخاصة تدخلاتهم الاقتصادية ومشاريعهم في أمريكا الجنوبية، المنطقة التي اعتبرها الأمريكان ساحة خلفية لبلادهم، يحق لهم التدخل متى ما أرادوا وهو ما رفضه، ولم يكن موقفه مغايرًا تجاه قادة أمريكا الجنوبية الذين تضخمت ثرواتهم على حساب الشعب وانعكس ذلك على أعماله التي تميزت بدمج السوريالية والواقعية، حيث أن الشخصيات المجنونة والخيالية والأسطورية، استمد البعض منها من حكايات جدته التي كانت ترويها لغابو الطفل الذي ظل مأخوذًا بعالم أمريكا اللاتينية ولم يدخر جهدًا في رواياته، إلا وذكر فيه قرية أو مدينة كمسرح لحدث ما. 

وجد ماركيز نفسه صحفيًا ومؤرخًا أكثر من كونه أديبًا وتجلى ذلك بوضوح في رواية (خبر اختطاف)والتي اعتمدت على أحداث حقيقية وصفت اختطاف ماروخا باتشون وزوجها لبيرتو بيياميثار ستة أشهر على يد الإكتسراديتابليين (اتحاد تجار المخدرات المناوئ لقرار تسليم المواطنين الكولومبيين لأمريكا)وهي الجماعة التي كان يتزعمها بابلو إسكوبار، أشهر تاجر مخدرات على مرّ التاريخ، واستطاع ماركيز أن يوظف الصراع بين تجار المخدرات والحكومات الفاسدة للسيطرة على البلاد في رواياته، وقد راح ضحية هذا الصراع صديقه (غيبرومو كانو )رئيس تحرير صحيفة الاسبكتادور، وبذلك يكون ماركيز أكثر كتاب عصره قدرة على تقديم أمريكا اللاتينية بكل تناقضاتها، بجمالها وأبطالها وفلاحيها وديكتاتورياتها وأقليتها الحاكمة، واصفًا وحشية الأنظمة العسكرية ورجالاتها، معرفًا جمهوره بعبثية الحروب وتأثيرها من خلال كلماته المرسومة بدقة.

وساطة الأدب

وعلى الرغم من عدم انخراطه في العمل السياسي، إلا أنه لعب دورًا سياسيًا لإنجاز مهام كلف بها وأهمها اتخاذه كوسيط بين إدارة بيل كلينتون وفيدل كاسترو لرفع الحصار عن كوبا، وقد لاحقته انتقادات في الأوساط الأدبية لعلاقته المتميزة مع كاسترو الذي كان نظامه يقوم بسجن معارضيه من الأدباء والكتاب، إلا أنّ ماركيز نفى هذه العلاقة واعتبرها علاقة بين قارئ مهتم بالأدب وكاتب. ظل ماركيز عارفًا حدوده السياسية ورغم مغادرته بلاده على خلفية تحقيقات تتهمه بانتمائه للجماعات اليسارية المسلحة، لكنه عاد بعد عقود ليقوم بدور وسيط بين الحكومة وتلك الجماعات، ولم ينجر ماركيز للإغراءات والامتيازات السياسية، على عكس فارغاس يوسا الذي انخرط في العمل السياسي وخسر رهانه على رئاسة البيرو، مما كان سببًا في خسارته العديد من جمهوره.

حلم اليوتيوبا

ظل ماركيز حتى وفاته التي أعلنت فيها البلاد حالة الحداد وتأجلت فيها الخلافات السياسية لحين انتهاء فترة الحزن حالمًا يرى أن اليوتوبيا فكرة  قابلة للتحقيق لولا تردد الرجال، وبالرغم من كل الصراعات التي عاصرها بقي ماركيز يكتب عن شغفه بالحياة وحبه لها، وهذا ما اكده في مقابلة تلفزيونية أجريت معه في أواخر حياته قائلًا: "أنا لا أقبل سوى خيار عدم الموت، أعتقد أن الشيء المهم هو الحياة والبقاء على قيد الحياة".


دلالات: