09-فبراير-2019

مسدس كاتم الصوت في العراق (فيسبوك)

في 23 آب/ أغسطس 2008، اغتيل كامل شياع، الكاتب الذي كان مستشارًا في وزارة الثقافة العراقية. كان شياع "كتابًا متنقلًا"، على حدّ تعبير سعدي يوسف، صاحب مشروع تنويري، وقف ضدّ أمراء المحاصصة في العراق حين كان يعملون على تطييف الوزارات، كل وزارة تسجّل على طائفة الوزير وعشيرته. جاء شياع من العاصمة الآمنة والجميلة بروكسل لبلاده التي تركها هاربًا من الاستبداد في زمن النظام البعثي، جاء من الاستقرار إلى الفوضى الأمريكية عسى أن يُساهم بإنقاذ البلاد مما لحق بها، لكن الرصاصات السريعة للقتلة لم تترك له الخيار لمشاهدة بغداد وهي تتعافى أو يُساهم هو في معافاتها، قتل كامل شياع دون أن يكشف عن قتلته إلى هذه اللحظة.    

جاء كامل شياع من  بروكسل إلى بغداد ليساهم بإنقاذ بلده لكنّه قتل في خضم الفوضى العارمة ببغداد

ستمضي تسع سنوات ولا يزال السائل العراقي يسأل: من قتل كامل شياع؟ سيتكرّر هذا السؤال على عدد الأيام دون إجابة، يسأل العراقيون كثيرًا في العادة، لكن أسئلتهم مثل حياتهم، تُقابل بالإهمال، وأحيانًا بالأجوبة الخادعة التي يتخلّص من مسؤوليتها الجميع، يقولون أحيانًا: الإرهاب، الكلمة المطّاطية، الواسعة، بعيدة المدى والتشخيص، يصمت السائلون إزاء هذه الكلمة، وفي أحيان أخرى، يقول المعنيون: نحن فاشلون، فشلنا في حفظ الأمن مع نبرة حزينة، كلّهم فاشلون تعني بالضرورة أن ليس هناك بينهم من يتحمّل المسؤولية عن ما يحدث للناس، يضيع دم المظلومين بين قبائل النظام المحفوظ والمبارك من الغرب والشرق.

اقرأ/ي أيضًا: مزاد القتلى

ليس في حالات القتل وانتهاك الروح البشرية يصدر هذا التبرير، كلنا مسؤولون عن تراجع الأمن، حتى في الفساد، يقولون في وسائل الإعلام بصوت عال "كلهم حرامية"، وما دام كلّهم بهذه التهمة، إذًا ليس هناك سارقًا بينهم تستطيع أن تسأله: أين ثروات البلاد، لأن الجواب سيكون جاهزًا: كلنا سراق يا أخي!

يتمدّد شكل التبرير أعلاه ليصل إلى المجتمع ويكتبه من هو محسوب على النخب، هذا شعب "ما تصيرله جارة"، أي لا ينفع معه أي شيء، أو أنه تعوّد على الاستبداد ولا تنفع معه "الديمقراطية"، والأخيرة تطرح على شكل ترياق مخلّص بشكلها التوافقي الطائفي. تندرج هذه التبريرات ضمن حفلات إنقاذ النظام أو منحه الروح بعد الانسداد الذي يحدث في الأزمات الكبرى، الاحتجاجية منها، أو التي تفرضها الانهيارات الأمنية أو السياسية.

بعد ثلاث سنوات من قتل كامل شياع، تحديدًا في 8 أيلول/ سبتمبر 2011 تمّ العثور على هادي المهدي مقتولًا بسلاح كاتم الصوت في شقته ببغداد، سجّلت الحكومة وقتها الحادثة ضد مجهول. كان المهدي كاتبًا ومؤلفًا له ثلاثة كتب مطبوعة، إضافة إلى أنه أخرج العديد من المسرحيات، آخرها "هاملت تحت نصب التحرير"، اختطفت يد المنون جسده، لكن روحه بقيت ترفرف مع صرخات المحتجين في ساحة التحرير، يتذكرونه مع الغازات المسيلة للدموع. كان المهدي يطل على الناس ببرنامج أسبوعي، ناقدًا للواقع السياسي والاجتماعي، اسمه "يا سامعين الصوت"، لم يُسمع صوته أبدًا بعد أن قرّر السلاح الكاتم إسكاته إلى الأبد. كان المهدي مشاركًا في تظاهرات شباط/ فبراير 2011، التي جاءت كامتداد لثورات الربيع العربي، لكن الربيع في العراق أنهي بدماء المهدي والانشغال بالأسئلة عنه: من أمر ومن تسبّب ومن قتل ومن نفّذ بحق السماء؟ لم تظهر الإجابة بعد أن أقترب هذا العقد من النهاية، أظنه سيطوى دون أن نعرف ويعرف الضحايا، الأيتام والأمهات والزوجات والحبيبات.

كان هادي المهدي ناشطًا في الاحتجاجات العراقية، وجد مقتولًا في داره بسلاح كاتم الصوت!

بعد قتل المهدي أُشغل الناس بثنائيات صنعها النظام آنذاك، حين كان المالكي رئيسًا للوزراء، هل كان المتظاهرون بعثيون؟! هل كانوا يشربون الخمر؟ هل يتلقون دعمًا من الخارج؟. طويت صفحة المهدي في خضم هذه الأسئلة التي نجح النظام في إشغال الناس بها، والأهم أنه أنساهم ما خرجوا للمطالبة به، الخدمات، الأمن، الاستقرار، محاسبة الفاسدين، توفير فرص العمل، هي ذاتها الانشغالات مع رفيف اليساري وسعاد العلي وتارة فارس، هل كانت الأخيرة عاهرة أم لا؟ هكذا سأل أحد الإعلاميين في العراق، ولم يسأل عن القاتل وسلاحه ولماذا قتل.

اقرأ/ي أيضًا: مليشيات القتل الطائفي.. تقسيم "داعشي" للعراق

مع بداية 2019 وجد أحد الصحفيين مقتولًا في بغداد، كان شابًا طموحًا في مجال التصوير الصحفي، لكن طموحه مات، مع موت السؤال عن قاتليه، من هم؟ انشغلت الصفحات التي يموّلها أمراء الطوائف في العراق وقتها، في نشر ما أطلقوا عليه بـ"إساءات" القناة التي يعمل بها الصحفي للحشد الشعبي، لينشغل الناس في البعيد عن حادثة القتل، عن الجريمة بوصفها جريمة وحسب.

في نهاية كانون الثاني/ يناير، قرأت إعلانًا كتب عليه "ندعوكم لحضور حفل توقيع رواية "شارع أسود" للروائي علاء مشذوب ضمن فعاليات معرض بغداد الدولي للكتاب، كتبت وقتها لمشذوب "مبارك"، لكن مع بداية شباط/ فبراير، وقبل أن يبدأ معرض الكتاب، جاء أحدهم وأفرغ ثلاثة عشر رصاصة بجسد الكاتب علاء مشذوب، مات الأخير ولم يحضر لحفل توقيعه، كان أصدقاؤه في بغداد ينتظرون مجيئه بالرواية ومن دونها، لكنه قتل، وأطلق السؤال في فيسبوك: من قتل مشذوب؟. أجابت القوات الأمنية بالجملة المعتادة في مثل هذه الحادثة، بأن "الحادثة ضد مجهول"، المجهول ذاته الذي يقتل منذ أكثر من عقد ويقوم باختطاف الأبرياء دون أن يعثر عليه أحد، أو دون أن يسأله على الأقل عن وجهة نظره باختطاف صحفية كتبت رأيها في صحيفة ما، أو اغتيال أحد الكتاب من ذوي الرأي.

لم يلحق علاء مشذوب توقيع روايته التي صدرت قبل موته بأيام.. تم توقيعها بعد اغتياله!

في 8 شباط/ فبراير، لم أخالف وعدي بالحضور لمعرض كتاب بغداد، وجدت حفل توقيع رواية علاء مشذوب لا يزال قائمًا، كان ابنه واقفًا خلف كتبه، يرتدي السواد والحزن يخيم على ملامحه، انشغلت لدقائق قليلة عن القول الذي أواجهه به، هل أبارك له كما باركت لوالده في ما سبق عن صدور الرواية، أم أعزيه، لكن دمعة نبتت بعيون أربع قطعت كل هذا النقاش بيننا، أظنني لو تركت هذه الدموع تكتب على الورق، لسألت ذات السؤال: من أمر ومن قتل ولماذا؟.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

علاء مشذوب.. الكاتب الذي وقّع روايته بعد اغتياله

بعد "حمّام اليهودي".. اغتيال الروائي علاء مشذوب في كربلاء