في مكان ما من هذه الأرض الشاسعة، وفي بقعة محروقة سوداء من بلاد السواد، وفي مساحات ومناطق يطلق عليها "الطمر الصحي"، بنيت هناك بيوت "التنك"، أي الصفيح، يسكنها بشر تكاد لا تربطهم بالحياة صلة سوى نوبات الشهيق والزفير. عناصر اللوحة لم تكتمل إلا بوجود قطعان الماشية التي تحولت من آكلات للعشب إلى آكلات للنفايات.
هناك مناطق يطلق عليها "الطمر الصحي"، بنيت وسطها بيوت "التنك"، أي من الصفيح، يسكنها بشر لا تربطهم بالحياة صلة سوى نوبات الشهيق والزفير
وللحق أقول إنني منحت حواسي إجازة إجبارية عندما وطأت قدمي تلك الأرض. استوقفت رجلًا كان يهيم في تلك الأرض وسألته:
- تعيش هنا؟
نعم
- تحت صفيح ساخن وبيت قوامه "تنكات" الزيت في موقع مخصص لدفن النفايات؟!
هذا ما أقدر عليه!
- كم من الأطفال عندك؟
ـ خمسة
رقم صعب وواقع مؤلم..
- سألته عم يبحث في النفايات؟
أبحث عن معيشة لأبنائي.
- كيف؟
أبيع ما أجمعه من البلاستك، الخبز اليابس، الزجاج، القواطي... الخ.
- والصفيح ؟
كلا، "لا أعلم لم شعرت أنه يريد القول إن الصفيح لا يصلح للبيع، فلا يمكن أن يباع ما يمكن ان يكون لهم سكنًا".
سبق وإن كتبت الصحافة عن مواقع الطمر الصحي وعن أناس منقطعين عن عالمنا يحتلونها ويعيثون فيها فسادًا وتعيث بهم مرضًا وفقرًا، وبالرغم من أن هذه حقيقة مرة ولكن أحدًا لم يفكر في تخليص هؤلاء الناس من هذه المواقع التي تشكل بواقعها اليوم مصدر خطر بيئي وصحي. هم مخطئون.. بحق أنفسهم أولًا وبحق البيئة ثانيًا، ولكن هل يدرك معظمهم خطورة أوضاعهم؟ ولا ندري على من نلقي اللوم على هؤلاء المنبوذين أم على من أوصلهم إلى هذه النتيجة.
اقرأ/ي أيضًا: حي المعامل في بغداد.. نفايات الفساد تأكل وجه الحياة
على جانب الطريق المؤدي إلى منطقة أبو غريب في ضواحي بغداد استدارت بنا السيارة لتحط بنا الرحال بهذه المناطق التي تتمركز في ضواحيها أماكن الطمر الصحي والتي توسعت لتشمل مساحات إضافية حسب ما قاله السكان هناك.
الواقع مؤلم للذين اتخذوا من هذه المواقع مكانًا للعمل والسكن في آن واحد. أما المناطق المحيطة أو المتاخمة لهذه المواقع، فهؤلاء هم المغلوب على أمرهم والضحية الأكبر من جرّاء ما يحدث، والكثير منهم كان متخوفًا من سيول الفيضانات التي وصلت إلى أطراف بغداد قبل أسابيع، والتي كانت ستجرف مناطق الطمر الصحي هذه، مما ستؤدي إلى كارثة بيئية. الصبية والصبايا سّخروا بطريقة مؤلمة للبحث في النفايات إلى جانب النساء "بشكل خاص"، إما الرجال فالبعض منهم راح يتولى المهمة النهائية لعملية الاتجار بما جمعه الأطفال والنسوة.
الأطفال من شتى الأعمار لم يلتحق السواد الأعظم منهم بالمدرسة تجيب أحداهن:
ماذا يفعلون بالقراءة والكتابة، نحن لا نبحث عن العلم هنا، نحن نبحث عن العيشة بين أكوام الأزبال، وهذا أمر لا يحتاج إلى قلم أو دفتر.
- وهل تريدين لابنائك حياة كالتي عشتها وما زلتِ تعانين منها؟
(تضع يدها على بطنها المنتفخة) وتقول:
هم ولِدوا هنا وأغلب الظن أنهم سيموتون هنا أيضًا.
تلك هي المخاطر التي تحدثنا عنها قبل قليل.. وإليكم تفاصيل أخرى عن هذه الرحلة:
يقف "مهدي" إلى جانب اخته "رغد" التي تصغره ، كما يبدو ببضعة أعوام.. عندما سألتها:
- ألا تعثرون على أشياء ثمينة هنا؟
تجيب بالتأكيد فقد وجدت بنفسي قبل أسابيع خاتم من "تنك" ومدت كفها التي بدا عليها آثار البحث في النفايات، مشيرة إلى خاتم يلف بنصرها يشبه الذي يظهر للأطفال في "مكعب المفاجآت" في محاولة لإقناعي بأنها وجدت كنزًا. وهنا يقول مهدي:
إن حياتنا تتلخص برعي الماشية في النفايات فنحن "غنّامة" إلى جانب البحث عن البلاستك والزجاج وغيرها. هذه هي حياتنا.
- وكيف تسلمون من الأمراض المترتبة على عملكم ومعيشتكم هنا؟
لا اخفيك أن البعض منا تظهر عليه أعراض لأمراض ما أنزل الله بها من سلطان.. أما البعض الأقوى فقد اكتسب مناعة دائمية.
وأكاد أجزم أن عدد الكلاب السائبة والتي عقدت صداقة مع سكان الموقع توازي عدد السكان هناك، مع ملاحظة مهمة أسوقها للقراء، وهي أن وسيلة المواصلات المعتمدة هناك في أغلبها هي (الحمير).
يقترب مني شاب في العشرين من عمره، مستنجدًا ليقول ليتكم تجدون لنا حلًا.
- سألته، أنت من هنا؟
نعم واسمي "علي شناو" يأخذ نفسًا عميقًا.. يزفره مع هذه الكلمات:
ما ذنب هؤلاء الأطفال ... فإذا كان الكبار قد اختاروا سبيل العيش هذا، فأن هؤلاء الأطفال لا حول لهم ولا قوة، قبل سنين وفي أيام العنف الطائفي "والحديث لعلي" كانت ترمى جثث في هذه المناطق ما زلت أذكر الرعب الذي على وجوه الأطفال عندما كانوا يشاهدون تلك الصور.
أي ذاكرة سوف يحملونها معهم عندما يكبرون؟
- وكيف تعاملتم مع الموقف؟
أخبرنا الشرطة التي جاءت واتخذت الإجراءات المطلوبة.
- وماذا تقترحون من حلول؟
الحل لدى الجهات المسؤولة ... فتسييج المواقع ليس أمرًا مستحيلًا مع وضع رقابة على مداخله.
كلام مقبول، فعلًا يتحتم على الجهات المسؤولة أن تجد حلًا سريعًا لهذه المشكلة، فنحن نؤمن تمامًا بأن في أيدي المختصين من الحلول ما نعجز عن وضعه أو اقتراحه. ويبقى السؤال: هل تحظى هذه المواقع بموافقة دوائر البيئة؟
"أبو محمد"، من سكّان المناطق القريبة من مواقع الطمر، فّضل عدم ذكر اسمه الصريح، وقال: أغيثونا "الله يخليكم"، خلصونا من محرقة النفايات التي أتت على ما تبقى من رئة ولدي التي تعاني "الربو والحساسية" لقد زحفت النفايات لتشمل أزقتنا المتواضعة "أين نولي وجوهنا".
- ولكنك اخترت السكن هنا مع قيام هذا الواقع
لم يكن الأمر كذلك قبل سنوات قليلة، لقد أستفحل الأمر ليشمل الطمر مناطقنا، لقد اختلف الأمر كليًا.
يتحتم على الجهات المسؤولة أن تجد حلًا سريعًا لمشكلة الذين يسكون بالقرب من الطمر الصحي والنفايات
تركت هؤلاء القوم يهيمون بين النفايات ويتنقلون بين أكداس التنك المخصص لسكنهم، ورجعت إلى بيتي وأنا أردد: هل يعتبر المسؤولون هؤلاء الناس عراقيين فعلًا؟!
اقرأ/ي أيضًا:
صور| سقط فيها صدام وحل "مستنقع" الفساد.. 7 حكومات لم تنعش قلب بغداد!