15-أبريل-2022
الحريات

ذريعة الخوف على التقاليد هي الكلمة السحرية لإعطاء القمع طابعًا عقلانيًا (فيسبوك)

الاعتقاد بأنك على حق يعزّز فرضية مفادها أنك لا تخشى النقد، وبخلافه أنت تعاني من شكوك مخيفة، وهذه الأخيرة تعزز فرضية ثانية مفادها أنك ستغدو عنيفًا وعدائيًا للتعويض عن تلك المخاوف. وبحسب هاتين الفرضيتين يمكن القول إنّ عموم المعتقدين بصحة عقائدهم ربما هم أكثر الناس توجسًا من النقد. ومن ثمّ تتأهب الحواضن الشعبية الموالية (وليس بالضرورة أن تعرف أصل الموضوع وتفاصيله) لمزيد من التأييد والعدائية لوجهات النظر المختلفة التي تصل لمستويات تتجاوز حتى العنف الرمزي. وما نراه بين الحين والآخر من قبل الحواضن الشعبية الموالية يعزز الفرضيات أعلاه. ولكي تقمع كل شبهة محتملة تتجاوز المقدمات وتدخل في صلب النتائج، بمعنى أنها غير معنية بالتغيير الحقيقي والوقوف على أصل الإشكالية، لذلك تلجأ إلى تكتيك معهود وهو القمع دون الوقوف وقفة جادة عن الأسباب الموضوعية التي فاقمت تلك الإشكالية.

كلما ضيقت السلطة السياسية على الحريات كان التشكيك والتذمر والخروج عن العقيدة أسرع

وسيكون الوضع أكثر خطورة لو وجدت هذه العقائد سلطة سياسية تحتمي بها، فيغدو التضييق على الحريات مصادق عليه قانونيًا. ولكي يشرعنوا هذه المخاوف يضعونها في خانة الحرص على التقاليد والخوف من الفساد، وهذا الأخير ينطوي على دلالة حاصرة بنظر أهل السلطة وهو حين تكون مكاسبهم الشخصية مهددة بالزوال. لذلك يصعب عليك التصديق أن الحواضن الشعبية الموالية ذات الميول الدينية ستتحرك بنفس الوتيرة والنشاط الذي يحركها عادة في الكرنفالات الهستيرية ذات البعد العقائدي. لم نشهد حراكًا اجتماعيًا وسياسيًا، على سبيل المثال، يطالب ببناء مؤسسة ضابطة تنظم شؤون خطباء المنبر بدلًا مما نشاهده من أعاجيب الخطباء. ولم نشهد ذات الحراك حول قضايا الفساد السياسي أللهم إلا من حيث الصراع على السلطة. وبأي حال لا يتمتع الجمهور السياسي العراقي، بكل فئاته وتصنيفاته الدينية والدنيوية، بوعي سياسي يرتقي للتفكير ببناء الدولة. الكل معارض للسلطة والكل يريد السلطة، ولكما كانت هذه الأخيرة ذات نزوع عقائدي كانت إلى القمع أقرب.

ثمة علاقة طردية؛ كلما ضيقت السلطة السياسية على الحريات كان التشكيك والتذمر والخروج عن العقيدة أسرع. لذلك أن أسلك طريق لأي فكرة هو غربلتها وتقويمها على الدوام لتغدو أكثر تماسكًا وقوة وإقناعًا. لقد حكمت العقيدة الشيوعية لسبعة عقود، إلا أنها أخفقت في نهاية المطاف حين تحولت إلى سلطة سياسية استبدادية، وستخفق كل سلطة سياسية متصلبة، وخصوصًا إذا كانت سلطة تحتمي بمقولات الدين والمذهب مهما كانت قوتها وسعة جمهورها، ذلك أن نظرة الناس للسلطة السياسية لا تخرج عن هذه مطالب العيش الكريم مهما كان تصلّبهم العقائدي، لأنهم يدركون الفارق جيدًا بين السلطة الزمنية (السياسية) وبين السلطة الروحية. وعلى الرغم من صعوبة هذا الفرز بالنسبة للجمهور السياسي العراقي الصعب المراس، إلا أن الأصوات الدينية الغاضبة بدأت تتسع رقعة مساحتها بالتدريج.

نقطة القوة في النظم الديمقراطية هو ذلك المجال الواسع -والمقنن طبعًا- للحرية، وهذه الأخيرة هي الحد الفاصل بين صعود مجتمع ما وانحداره. وافترض أن أعظم مقولة أنجبتها الحداثة الغربية هي مقولة الحرية، ويمكن اعتبارها "الكبرى الكلية" لباقي التفاصيل المنجزة في هذه الحضارة العظيمة. فأنت في نهاية المطاف، وفي الغرب عمومًا، لا يمكنك التفكير أو التعبير، ولا يمكنك الإبداع بشكل أوسع، كما لا يمكنك أن تعثر على كينونتك الخاصة ما لم تملك حريتك. من هنا تكون الحرية هي الأساس المتين الذي تفجرت منه الحداثة الغربية.

 فلنتصور العقائد الدينية، على سبيل المثال، لو كانت بالإكراه ستنتج حتمًا مجتمعًا منافقًا، ولذلك نعثر في مأثورنا الديني على رواية بالغة الدلالة تقول؛ "لإن هدى الله بك رجلًا واحدًا لكان أحب إليك مما طلعت عليه الشمس". فالمعيار الصحيح في هذا السياق هو الهداية وليس الإكراه، كما أن الهداية والإكراه ضدان لا يجتمعان، فضلًا عن أن الهداية لا تستقيم ما لم ترافقها الحرية، ويمكن القول إن مفهوم الهداية يقتضي نفي الإكراه وليس العكس. "ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك". ذلك أن مدار الأشياء هو اللين والرحمة والحوار البناء وليس القمع والتضييق.

وليس الأمر محصورًا بالدين فحسب، كما بيّنا أعلاه، بل يتعدى كل العقائد المتزمتة التي تتمثل على شكل نظم سياسية شمولية تنصب نفسها شرطيًا على حريات الناس. وفي مجتمعاتنا المحافظة قد تعثر عل تسامح نسبي لحرية التعبير، بينما حرية التفكير تماثل الكفر والخروج عن الملة، لأن الطغاة يعلمون تمامًا أن حرية التعبير قد لا تنتج سوى ترويح وتنفيس وثرثرة بشكل عام، أما حرية التفكير فهي إيذان بتهديم عروش السلطة. دائمًا ما تكون ذريعة الخوف على التقاليد هي الكلمة السحرية لإعطاء القمع طابعًا عقلانيًا، بينما يحتل الفساد المالي والإداري والسياسي في مجتمعنا المحافظ دورًا مخيفًا، لكنه يُعتَبَر هيّنًا ومقبولًا في ثقافة تحتقر مؤسسات الدولة، ربما لأن الدولة تُعَدُّ "مجهولة المالك" في نظر السلطة الحاكمة.