21-أكتوبر-2019

أغلقت السلطة وهدّدت كل القنوات والوسائل الإعلامية التي كانت مستمرة في تغطية التظاهرات (Getty)

ألترا عراق ـ فريق التحرير

اتخذ قمع احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر أشكالًا متعددة تشترك بنقطة انطلاق واحدة، من السلطة ورصاصها الحي المتجه نحو المحتجين ومن يساندهم.. ومع تصاعد الأعداد في العاصمة بغداد والمحافظات وسعت السلطة من أهدافها في القمع فبعد قطعها للإنترنت، انتقلت إلى وسائل الإعلام لتضع البلاد في عزلة تامة، والدم كان ينزف.   

كان للفواصل الفيديوية الأثر البالغ في نقل العنف الذي تعرض له المتظاهرون، لكن هذا لم يدم طويلًا حيث مُنعت الكوادر الإعلامية من النزول إلى الشارع

جاء استخدام القوة المفرطة في اليوم الأول والثاني بنتائج عكسية للسلطة، حيث تضاعفت أعداد المحتجين وازداد السخط الشعبي، خاصة مع تأخر قطع الإنترنت إلى مساء اليوم الثاني من تشرين الأول/أكتوبر حيث ساعد على توثيق العنف والقسوة الذي مارسته القوات الأمنية، فيما باتت القنوات التلفزيونية هي النافذة الوحيدة للمواطنين، بالإضافة إلى الموقع الإخبارية التي تستطيع أن تغطي من إقليم كردستان أو خارج العراق.

تهديدات أولية

غطت بعض القنوات التلفزيونية خلال اليوم الأول، ساحة التحرير ببث مباشر، بالإضافة إلى تغطية مستمرة للأحداث، من خلال نشراتها الإخبارية وبرامجها السياسية والصباحية، وكان للفواصل الفيديوية الأثر البالغ في نقل العنف الذي تعرض له المتظاهرون، لكن هذا لم يدم طويلًا حيث مُنعت كوادرهم من النزول إلى الشارع.

اقرأ/ي أيضًا: خلال 5 أيام.. 43 انتهاكًا ضد الصحفيين أثناء الاحتجاجات

بعد ازدياد الزخم الشعبي وتعدد مناطق الاحتجاج تولت مجاميع مسلحة بلباس أسود مهمة متابعة الإعلام والناشطين، فيما تختلف الروايات حول تبعيتهم، هل هم من ضمن تشكيلات الحشد الشعبي كما أشيع مثل مديرية أمن الحشد، أم فصائل مسلحة موالية لإيران مثل سرايا الخراساني، حيث اكتفت هذه الجماعات خلال الأيام الثلاثة الأولى من تشرين الأول/أكتوبر بإرسال التهديدات والمطالبة بتخفيف التغطية للاحتجاجات والتي اعتمدت على التغطية الإخبارية عبر شهود عيان وبمعادل صوري من الأيام السابقة، بحسب "م.ح".

ويروي "م.ح" وهو إعلامي في إحدى القنوات التي ما زالت مغلقة لغاية الآن، "لم يتمكن مراسلينا في بغداد والمحافظات من النزول إلى الشارع بمعداتهم، خاصة في بغداد، فيما اعتمدنا على نقل الأخبار العاجلة بواسطة رسائل "SMS"، لكن لم تمض أيام على هذا، حتى تلقت الإدارة اتصالات تبلغها بضرورة عدم التغطية وترك كل ما يتعلق بالتظاهرات".

أضاف "م.ح" في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الرعب والخوف أصاب العاملين في القناة ما جعل الجميع يخشى أن يقع ضحية لتلك التغطية، خاصة وأن الجهة المهددة مجهولة والوقوع بين فكيها يعني اللاعودة بشكل نهائي".  

ليلة الاقتحامات.. تهديدات رفيعة

التحشيد يزداد والشباب يتوافدون إلى ساحات الاحتجاج في المحافظات المنتفضة، فاستُحدثت وسائل قمع أكثر قسوة وبطشًا، حيث نزل "القنّاصين" إلى الشارع وبدأ رصاصهم يتوجه نحو أجساد المحتجين العزل، في الوقت ذاته، تطوّر التعامل مع القنوات التلفزيونية بعد أن فشلت المحاولات السابقة في الحد من تغطياتهم، وبدأت الخطوات العملية من خلال اقتحام وقصف قنوات، وتهديد أخريات أُغلق بعضها مؤقتًا والبعض الآخر ترك التغطية نهائيًا.

مر "ألترا عراق"، من قناة NRT  أثناء تواجد القوات الأمنية في بابها الذي كان عناصر الشرطة الاتحادية يطوقونه، بينما في الداخل كان هناك جماعة ترتدي اللباس الأسود

ليلة 6 تشرين الأول/أكتوبر اقتحمت قوة مسلحة قناة NRT عربية، ومكاتب قنوات عربية، وحطمت ممتلكاتها بشكل نهائي ما أدى إلى قطع بث القناة بشكل نهائي.

اقرأ/ي أيضًا: جواب السلطة على "العلم العراقي" رصاصة في جسد المتظاهر!

لم تكن تعلم القوة الأمنية الموجودة عند باب قناة NRT عربية بقدوم قوة أخرى لاقتحام القناة، حيث طوقوهم وسحبوا هواتفهم المحمولة وأجهزة الاتصال العسكرية الخاصة بهم، ومن ثم الدخول إلى القناة وتحطيم الأجهزة والصراخ بهستيريا بالكادر الموجود، بحسب "ح. ر".

مر "ألترا عراق"، من القناة أثناء تواجد القوات الأمنية في بابها الذي كان عناصر الشرطة الاتحادية يطوقونه، بينما في الداخل كان هناك جماعة ترتدي اللباس الأسود، لم يستطع فريقنا التصوير بسبب الأجواء المرعبة في ذلك الوقت.

يقول "ح. ر" وهو أحد العاملين في القناة الذي رفض الكشف عن اسمه لذات الأسباب التي اُقتحمت بها القناة، "لم أسمع سوى الصراخ وتكسير الزجاج حتى دخل إلى الغرفة التي كنت أجلس فيها واثنين من زملائي مجموعة، صرخوا بنا ورصفونا إلى الجدار، وبدأوا بتهشيم شاشات اللابتوب".

أضاف "ح.ر" في حديث لـ"ألترا عراق"، "طلبوا منا عدم الكلام وتنفيذ الأوامر، بعضهم تهجم علينا وشتمنا، وآخر قال لا تخافوا مشكلتنا ليست معكم، ثم جمعوا هواتفنا ومحفظاتنا وسحبوها مع كل الأموال التي كانت بحوزتنا وغادروا، بعد أن حطموا الأجهزة والأثاث بالكامل".

بعد اقتحام مقر وسائل الإعلام باشرت بعض القنوات ببث برامج الطبخ وفوائد الرياضة الصباحية فضلًا عن بث المسلسلات التاريخية

كان الاقتحام رسالة واضحة وصريحة، إذ أن المسألة تتعلق بوجود الحكومة والسلطة، والبطش والسلاح هو الحل، ما أدى إلى إغلاق قناتي الرشيد ودجلة، فيما تركت الفرات المملوكة لزعيم تيار الحكمة المعارض عمار الحكيم تغطية المظاهرات وباشرت ببث برامج الطبخ وفوائد الرياضة الصباحية، بالإضافة إلى قناة الشرقية.

اقرأ/ي أيضًا: من غرفة "قمع" التظاهرات: 4 جهات رسمية تقاسمت أدوار القتل.. و"قناصة اللواء 57"!

قبل إغلاق قناة دجلة بقرار من المدينة الإعلامية في العاصمة الأردنية عمان، تعرض مكتبها الرئيسي في بغداد إلى هجوم بقنابل صوتية وإطلاقات نارية كثيفة منعت بث برنامجها الرئيسي، الذي كان يغطي الاحتجاجات.

كان الكتاب الموجه من المدينة الإعلامية في عمان إلى إدارة القناة محاولة لحفظ ماء الوجه على حد تعبير مصدر مطلع، والذي يقول إن "نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس اتصل بشكل مباشر بمالك القناة زعيم حزب الحل ورجل الأعمال جمال الكربولي وأبلغه أنها مواجهة شيعية، وعليه الانسحاب حفاظًا على مصالحه". 

أضاف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن اسمه في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "التغطية الشاملة والكبيرة التي تبنتها القناة خلال الأيام السابقة، لم تترك للكربولي مجالًا للانسحاب كما فعلت قناة الفرات، فالأمر يمثل خسارة وإحراجًا مهنيًا كبيرًا"، لافتًا إلى أنه "أشاع خبر قطع البث من الأردن بعد طلب رفيع من بغداد، وعززه بوثيقة لا يصعب استحصالها بالعلاقات في عمان أو تزويرها".

ولم تكن قناة الفرات بعيدة عن ما تعرضت له دجلة، حيث سقطت قذيفتي هاون في الباحة الخارجية للقناة، والاتصال ذاته وصل إلى أحمد الساعدي مدير عام القناة والرجل الأقرب لعمار الحكيم، حيث هُدد بشكل شخصي، ما دفعه إلى تقديم استقالته، بحسب المصدر.

صاحب الدراجة مراسلًا

انخفض بشكل كبير عرض الفيديوهات التي توثق القتل والرمي بالرصاص الحي في القنوات لتعذر وصول كوادرها إلى ساحات الاحتجاج، أو لمحاولتهم تخفيف التغطية استجابة للتهديدات، لكن تسجيلات مخيفة كانت تتكدس في هواتف المحتجين.

مصدر: أبو مهدي المهندس اتصل بشكل مباشر بمالك القناة زعيم حزب الحل ورجل الأعمال جمال الكربولي وأبلغه أنها مواجهة شيعية، وعليه الانسحاب حفاظًا على مصالحه

فيما كان مجموعة من الصحفيين يتنقلون بين المقاهي في القرب من ساحات الاحتجاج خوفًا من المراقبة، يغطون من خلال الهواتف التطورات ويرسلونها إلى زملائهم في خارج العراق أو إقليم كردستان لتنشر، حيث كان الجمهور المستهدف بالدرجة الأولى هم عراقيو الخارج لعل شيء من تلك الأخبار تصل إلى العالم.

اقرأ/ي أيضًا: عداد الموت.. حصيلة انتهاكات السلطات العراقية لحقوق الإنسان خلال انتفاضة تشرين

إزاء ذلك، كان "س .ع" وصديقه يسرعون بدراجتهم النارية في أزقة شارع السعدون يحاولون اقتناص أي مشهد يوثق  الحقيقة، ثم يسرعون إلى المستشفيات لتصوير الضحايا، بالإضافة إلى نقل التسجيلات من المتظاهرين وجمعها في هاتف واحد.

يروي "س.ع" في حديث لـ"ألترا عراق" تفاصيل مغامراته خلال الاحتجاجات، "كانت صباحات أيام تشرين الأول/أكتوبر هادئة حتى الظهيرة، رجال الأمن يتوزعون بأعداد كبيرة في الشوارع المحيطة بساحة التحرير، وهناك عمليات كر وفر تقوم بيها مجاميع متفرقة من المحتجين، ما يسهل اعتقالهم، لذلك كان من الضروري توثيق كل هذا، مضيفًا "نحن مؤمنون أن ساعة محاسبة المسؤولين تأتي وستكون تلك المواد المصورة دليلًا حيًا على استبدادهم".

أضاف "س.ع"، "عند امتلاء هواتفنا بالتسجيلات وتحسبًا لاعتقالنا، نعمل على نقلها في أماكن أمنية، بالإضافة إلى الأصدقاء الذين نثق بهم من الصحفيين لإيصالها للمؤسسات الصحفية، فيما نتوجه إلى المستشفيات، حيث وثقنا مشاهد مرعبة للقنص وللضرب بالرصاص الحي بشكل مباشر"،  لافتًا إلى أن "القوات الأمنية كانت تتعامل بقسوة وحذر مضاعف تجاه كل من يصور، حيث سحبوا وحطموا عشرات الهواتف، فيما استهدف القناص بشكل مباشر من يصور، وأنا أحدهم مرت رصاصة بجانبي حتى أحسست بأزيزها".

يصف "ن.ز"، التغطية للأحداث بـ"البوليسية"، كنا نتنقل بين أماكن عديدة تحسبًا لدخول قوة أمنية، حيث كنا مجموعة تلتفت الأنظار، حيث تمت مراقبتنا لأكثر من مرة وتمكنا من المناورة والهرب".

مراسلو قناة العراقية والقنوات التابعة للاتحاد الإسلامي كانت لهم وجهات نظر يقدمونها للمتظاهرين، وهو ما قاله مراسل العراقية في إحدى تغطياته، أن "المطالب التي يطرحها المتظاهرون تعجيزية"!

يتابع "ن. ز"، "كانت المسؤولية كبيرة تجاه الأمانة التي تحملنها من الذين زودونا بالفيديوهات، كان لزامًا علينا نشرها، وبالرغم من قطع الإنترنت تمكنا من الحصول على منافذ، أرسلنا مجموعة فيديوهات في المرة الأولى"، لافتًا إلى ان "الظروف جعلتنا نتجاوز حرية الحقوق والسبق الصحفي كنا ننتظر أي شخص يمكن نشرها دون الإشارة إلى مؤسساتنا، وحاولنا التعاون مع إحدى القنوات العالمية لكنهم تراجعوا في اللحظات الأخيرة".

بغداد بعدسة قناة العراقية

 بالوقت الذي كانت شوارع بغداد خالية، ورائحة الدخان والموت تزكم الأنوف، كانت قناة الحكومة الرئيسية العراقية تنقل حياة باريسية من وسط العاصمة، حيث توزع مراسليها وخرجوا ببث مباشر من أمام أماكن عديدة يتحدثون عن انتهاء المظاهرات السلمية، مؤكدين عمل الحكومة على تلبية مطالبهم.

اقرأ/ي أيضًا: متظاهرون يعاملون كـ"داعش".. ماذا تعرف عن "البو عزيزي" في واسط؟

نقلت العراقية من أمام ساحة الخلاني أجواء هادئة، الإنارة تضيء الحديقة ورجال الأمن كانوا مستلقين على الأرض، لكن صوت الرصاص كان مسموعًا وأخذ يزداد والمذيع يتحدث، ما أجبره على الختام والعودة إلى الاستوديو الرئيسي.

في إحدى الصباحات كان المراسل منزعجًا في ساحة التحرير من الفوضى والدمار الذي خلفه المتظاهرون ويطلب من المصور توثيق ذلك، فتظهر قناني الماء الفارغة، فيما وصف أحد الصحفيين الأمر بقوله إن مراسلي قناة العراقية والقنوات التابعة للاتحاد الإسلامي كانت لهم وجهات نظر يقدمونها للمتظاهرين، وهو ما قاله مراسل العراقية في إحدى تغطياته، أن "المطالب التي يطرحها المتظاهرون تعجيزية"!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أبو زينب اللامي.. "جزار المتظاهرين" أم "كبش فداء" الحشد الشعبي؟!

واشنطن بوست: لماذا يتظاهر الشباب الشيعة ضدّ الحكومة الشيعية؟