18-أكتوبر-2019

نقلت عربات "التوك توك" معظم المصابين في التظاهرات وقد ساهم أصحابها بإنقاذ الكثير من الشباب (Getty)

سائقو الـ "توك توك"، شبان ومراهقون من الطبقة الكادحة، ينتشرون بعرباتهم الصغيرة في المناطق الفقيرة من العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية، لا تُكلّفهم عرباتهم ثمنًا باهظًا عند شرائها، وعند تزويدها بالوقود، وكذلك بالنسبة لركابها، إذ توفر لهم الأموال وتختصر لهم الزمن في الوصول إلى المناطق المُرادة داخل المدن المزدحمة التي تستطيع عربة الـ "توك توك" اختراقها بسهولة. ولطالما اشتكى سائقو المركبات ورجال المرور من "التكاتك" لما يسببونه من مضايقات مرورية ومخالفات لقواعد السير. لكن النظرةَ لهؤلاء تغيرت بعد العمليات البطولية التي أظهروها في ساحات الاحتجاج أثناء انتفاضة الشباب.

التوك توك ناقلًا للإطارات

 بدت الساعات الأولى من تظاهرات الأول من تشرين الأول/اكتوبر شبيهةً بتظاهرات سابقة تخرج نهارًا لتخفت ليلًا؛ لكن ليلة الثلاثاء/الأربعاء حملت معها أضواء النيران المضرمة في إطارات السيارات، يقطع المتظاهرون بواسطتها تقاطعات وشوارع رئيسية وفرعية في مدينة الصدر شرقي العاصمة بغداد.

تغيّرت النظرة لأصحاب "التوك توك" بعد العمليات البطولية التي أظهروها أثناء التظاهرات التي بدأت في مطلع تشرين الأول/أكتوبر

تخلل ذلك الليل تشييع أحد الشباب الذين سقطوا في ساحة التحرير مساء الثلاثاء في مدينة الصدر، وقادت مشاعر الغضب المحتجين لقطع طريق "قناة الجيش" قبل أن ينسحبوا إلى داخل المدينة. وفي الأثناء، كان سواق الـ"توك توك" يزودون المتظاهرين بالإطارات اللازمة لإدامة الحرائق، كان ذلك أول دور لهم في تظاهرات تشرين، لم يتم الكشف عنه بعد.

اقرأ/ي أيضًا: يفضلها الفقراء ولا تعيقها الأزقة الضيقة.. الوجه الآخر "للتوك توك"

رصد "ألترا عراق" حين قاربت الساعة الثالثة فجرًا محاصرة عناصر من الشرطة الاتحادية لبضع عربات "توك توك" وسائقيها في إحدى التقاطعات قرب منطقة الحبيبية. كان أحد عناصر الشرطة يقود إحدى العربات إلى جهة مجهولة.

التوك توك ناقلًا للمصابين

رغم تواجدهم في أكثر من منطقة للاحتجاج، ينقلون المحتجين والمصابين، إلا أن دورهم الأكبر برز حين قررت السلطات العراقية قطع الإنترنت وقمع أجهزة الإعلام التي تنقل أخبار التظاهرات وفرض حظر التجوال الشامل في بغداد وبعض المحافظات، بعد استمرار عملية الاحتجاج لعدة أيام.

باستخدام الرصاص الحي ودخول "القناص" إلى الساحة، تراجع المتظاهرون عن ساحة التحرير وبقيت عمليات الكر والفر بين شارع وزارة الداخلية وشارع فلسطين وقناة الجيش وصولًا إلى نقطة الانطلاق: مدينة الصدر. ولم تسلم حتى سيارات الإسعاف من الاعتداءات التي وثقتها عدسات المتظاهرين. لذلك، برز دور أصحاب الـ"توك توك" في عملية نقل المُصابين جراء الرصاص الحي والمطاط والقناص، بالإضافة إلى المختنقين جراء قنابل الغاز المسيل الدموع المقذوفة تجاههم من قبل قوات مكافحة الشغب.

ومثلما يقتحم سواق الـ"توك توك" الزحامات المرورية لسهولة حركة عرباتهم وصغرها، اقتحموا مناطق الاشتباك مع قوات الأمن وسط عجز سيارات الإسعاف عن الدخول لها، لينقلوا ما تيسر من الشباب الذين يسقطون مُصابين أو مختنقين أو مقتولين.

مساء السبت، الخامس من تشرين الأول/اكتوبر، حين اشتدت عمليات القمع، كانت "التكاتك" تنقل المتظاهرين المُصابين من ما يُعرف بساحة "المعارض" وساحة "الحمزة" والشوارع المتاخمة لهما إلى مستشفيات في عمق مدينة الصدر، كمستشفى الصدر (القادسية سابقًا)، ومستشفى الجوادر.

عشرات الشباب تجمهروا أمام مستشفى الصدر في قطاع 55، منهم من هو قريب لمصاب داخل المستشفى، ومنهم من قاده الفضول، ومنهم من كان يقوم بدور المُسعف، ومنهم من كان يتواجد لحماية المستشفى بعد أنباء عن ملاحقة الجرحى واعتقالهم في أماكن تلقيهم للعلاج. ذلك بالإضافة إلى عائلات الشباب الذين يهرعون إلى المستشفى حال سماعهم خبرًا مزعجًا يتعلق بأبنائهم المتظاهرين.

لاحظ "ألترا عراق" أن عربات الـ"توك توك" نقلت نحو 13 مُصابًا من المتظاهرين، فيما نقلت سيارة الإسعاف الرسمية متظاهرًا مختنقًا فقط 

كان صاحب الـ"توك توك" يُطلق منبه مركبته الصغيرة حالما يجتاز التقاطع المؤدي إلى المستشفى، معلنًا وصول حالة ما لا يعرف نوعها أحد، من قلب ساحة الاحتجاج، ليتسنى للشباب المتجمهر فتح الطريق الذي ازدحم بهم، وتحضير السرير "السدية"، بتناغمٍ قد لا يُرى بين فرق طبية مُنظّمة.

اقرأ/ي أيضًا: قصة من "ثلاجة الصدر".. رصاص السلطة في رأس "المقاتل المحتج"!

تقف الـ"توك توك" عند الحاجز، ويتراكض المتجمهرون ومعهم "السدية"، حاملين عليها ما نقلته هذه العربة من ساحة الاحتجاج، مختنقًا، مجروحًا، أو قد فارق الحياة قبل وصوله، إلى داخل المستشفى لتلقي العلاج إن كان حيًا. يستدير صاحب التوك توك المُسعف بعربته عائدًا إلى موقع تواجد المتظاهرين، لتتكرر العملية حتى ساعات متأخرة من الليل. ومن المفارقات، لاحظ "ألترا عراق" أن عربات الـ"توك توك" نقلت نحو 13 مُصابًا، فيما نقلت سيارة الإسعاف الرسمية متظاهرًا مختنقًا فقط برفقة عناصر من الجيش العراقي تعرض أحدهم للاختناق مع المتظاهرين بسبب الغاز المسيل للدموع، خلال ساعة واحدة.

التوك توك ناقلًا للتحذيرات

حاول "ألترا عراق" الدخول إلى المستشفى؛ لكن عنصرًا أمنيًا حذّرنا من الدخول بالقول: "لا أستطيع ضمان سلامتكم. هناك عناصر من الاستخبارات الأمنية ستتعرض لمن تكتشف أنه صحفيٌ ينوي التصوير".

في الأثناء، أوقف أحد الشبان الصغار الـ"توك توك" خاصته أمام المستشفى وخطب بالمتجمهرين: تقوم القوات الأمنية بملاحقة المُصابين واعتقالهم من داخل المستشفيات. لقد دخلوا إلى مستشفى (الجوادر) قبل قليل واعتقلوا عددًا من الشباب".

هتف بحماس: "لو كنتم رجالًا لا تسمحوا لهم بالدخول واعتقال المتواجدين في الداخل". يقصد المُصابين الذين يتلقون في مستشفى الصدر.

رد آخرون بعصبية، ثم طمّأن أحد حماية المستشفى الذين يرتدون الملابس السوداء، الناس المتجمهرين وصاحب الـ"توك توك" بأن لا أحد بإمكانه اعتقال المُصابين. استنكر قائلًا: "ضربوا ولدنا.. ونتركهم ياخذوهم؟!".

هتف آخر محاولًا تقوية عزيمة الشباب: "همة الأمريكان ما قدروا يدخلون".

رجع صاحب الـ"توك توك" إلى مقعده وانطلق عائدًا إلى حيث تُرمى قنابل الغاز والرصاص الحي. وما هي إلا دقائق حتى أغلق حراس المستشفى بابها الكبير وسمحوا لكل من يريد أن يدخل من الباب الصغير بعد تفتيش بسيط.

مشهد المستشفى لم يكن أفضل حالًا مما رآه الجميع بعد عودة خدمة الإنترنت وانتشار الفيديوات التي وثقت الأحداث؛ لكنه كان كئيبًا في تلك اللحظة، إذ يتوسد عشرات الشبان في أسرّة المستشفى دون أن ينقل لهم خبرًا في وسائل الإعلام، أو يُسمع عنهم في مواقع التواصل.

أخرجت المرأة نقودًا من عباءتها وقدمتها نحو صاحب الـ"توك توك" الجالس خلف مقوده، أشار بيده رافضًا تلقي أجرًا ماديًا مقابل خدمة التوصيل، فهو اليوم "ناشط وطني" 

لم يقتصر نشاط سائقي "التكاتك" على المصابين من المحتجين فحسب، إذ وقف أحد سائقي الـ"توك توك" قرب المستشفى، ومعه امرأة ورجل، يبدو على الأخير التعب من الغاز المسيل للدموع الذي بدأ يدخل إلى البيوت القريبة على أماكن المتظاهرين بحسب ما تداوله المتجمهرون، أخرجت المرأة نقودًا من عباءتها وقدمتها نحو صاحب الـ"توك توك" الجالس خلف مقوده، أشار بيده رافضًا تلقي أجرًا ماديًا مقابل خدمة التوصيل، فـ"التكتك" اليوم هو ناشط وطني!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

من غرفة "قمع" التظاهرات: 4 جهات رسمية تقاسمت أدوار القتل.. و"قناصة اللواء 57"!

إسقاط النظام أو الموت.. ماذا يريد شباب العراق من العالم؟