انطلاقًا من طفرة الوعي النوعية التي حققتها انتفاضة تشرين، وما تمخضت عنها من أحداث ونتائج، أحاول هنا أن أطرح بعض النقاط المفصلية التي تمس تطوير فاعلية الحراك الشعبي العراقي واسترداد زخمه وتحريره من حالة الركود، بعدما توقف بسبب الأوضاع الصحية الحرجة غير الآمنة، حتى يستعيد المُعارضين صحتهم وقوتهم، ومن ثمّ، مواصلة نضالهم السلمي والانخراط في تقويته إلى غاية تحقيق مطالبه المشروعة.
توقف آلة الاحتجاج الشعبي عن الدوران بسبب الأزمة الوبائية هو فرصة سانحة لمُراجعة الأخطاء والأخطار المحيطة بالحراك
إن الشعارات التي رفعها الحراكيون العراقيون في تظاهراتهم الأخيرة، كانت تحمل رسائلًا واضحة للسلطة السياسية العاجزة، وما حصل خلال الشهور الماضية هو إنجاز مرحلي أولي، أخرج الكثير من العراقيين من حالة السكون والجمودية، إلى واقع من النشاط الحركي الميداني الذي خلق فرص التغيير القابل للتوسع والاستثمار بما يضمن في التحديات القادمة إنتاج حراك ناضج بزخم ثوري وفعل إصلاحي.
اقرأ/ي أيضًا: معوقات إقامة النظام الديمقراطي في العراق
وفي ذات الوقت، فإن توقف آلة الاحتجاج الشعبي عن الدوران بسبب الأزمة الوبائية هو فرصة سانحة لمُراجعة الأخطاء والأخطار المحيطة بالحراك واستئصالها، وتصحيح ما هو مُمكن، وتعزيز صلابته وديناميكيته، وكذلك، مراقبة التحركات القادمة للسُلطة ومدى جديتها في تمرير مشروع الإصلاح، خصوصًا فيما يتعلق بقانون الانتخابات النزيهة، وإعادة كتابة الدستور، وملفات الاقتصاد والصناعة والصحة والتعليم والزراعة والطاقة، وهذه مسؤولية تقع على عاتق النخب الوطنية الفاعلة المهتمة باستمرار الرفض الشعبي للفساد السياسي والظلم الاجتماعي.
ثمة من يرى أن الحراك الشعبي العراقي انطلق بفورة من الوعي وحسن التنظيم، وبشكل عفوي في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، قبل أن يتراجع وينخره الضعف والانشقاق، فيما يعزى تقهقره إلى غياب القيادة، وفي الحقيقة؛ أنا أرى أن هذه النقطة لم تُشكل عقبة ومُشكلة حقيقية أمام الحراك العراقي، فالجماعية كانت سمة مميزة فيه امتدت لعدة أشهر، وغياب القيادة شكل نقطة قوة له على خلاف ما يرى البعض، وهذا ما لاحظناه في حراكات شعبية عربية أُخرى، مثل الحراك الجزائري الذي تميز بالقوة الشعبية التلاحمية العابرة للقيادات، وذلك يعني أن السُلطة ستواجه كتلة بشرية جماعية، ما يصعب عليها تشتيت الحراك ومسك رأسه واستقطابه واختراقه، وأما لجوء السلطة للعنف المفرط ضد المحتجين، فقد كان دليلًا دامغًا على ارتعابها من زخم الحراك الجماعي، وتقول التجارب إن قيادات الحراك طالما كانوا مُعرضين للتصفية والاعتقال، ومنهم من لا يزال قابعًا في السجون، وبذلك يمكن القول إن اعتماد التظاهرات على القيادات يسهل على السلطة إسكات أصوات المحتجين عبر اعتقالهم أو استدراجهم وإغوائهم، ولكن في المُقابل؛ يحتاج الحراك الشعبي بالطبع إلى موجهين ومحركين حاذقين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويرسمون خلف الكواليس تكتيكات التظاهر وآليات تنظيمه، التي من شأنها أن تربك النخب الحاكمة وتصعب عليها معرفة تحركاته والتحكم به، ولا أرى من الضروري أن يتصدر هؤلاء التظاهرات، ويصبحوا المرجع المقدس لها، والصواب هو أن يعطوا تعليماتهم في كل مُناسبة ويلتزم بها الجميع، والأفضل أن يكون هناك اجتماع للموجهين قبل وبعد كل حركة شعبية للنقاش والتباحث والقيام يغربلة للشعارات والأفكار المطروحة.
لذلك ما يهمنا حقًا، هو كيفية تنظيم الحراك الشعبي وتحويله إلى وسيلة ضغط جماعية فاعلة تلوي ذراع السلطة بسيلها الهادر، وأما محاولة حصره في شخصيات وقيادات معينة، فذلك لا يضمن تمثيلًا ورضا الجميع، ومن الضروري أن لا ينساق المتظاهرين في هذا النقطة بالتحديد وراء ثقافة الزعامات والاختلافات التي تتبناها السلطة، والتي هي إحدى أسباب خراب الدولة، وإنما يجب أن تُجابه هذه الثقافة بالعمل الجماعي الجماهيري الموحد الذي لا يتأثر بغياب القيادة الفردية.
من الأشياء الهامة التي يحتاجها الحراك أيضًا، هو إجماعه على المطالب المصيرية والضرورية لإصلاح نظام الدولة، ويجب أن يرفع الحجج الواضحة والمنطقية التي تحدد الهدف الرئيس والموضوعي للحراك الشعبي، ومن المهم أن تقوم لجنة داخل الحراك بكتابة برنامج مُختصر مطبوع يتم توزيعه للجماهير وللمهتمين، ويكون مكتوبًا بلغة رصينة، ويتم فيه ذكر عيوب النظام السياسي بالتفصيل واستخدامه كسلاح، مع طرح الحلول الإصلاحية المُناسِبة التي تُعبِر عن وعي أصحابها التام بالمشاكل التي تعيق النهضة، فمن يُريد أن يكون أفضل من غيره، فهو مُطالب بأن يثبت للخصم أنه على حق وإدراك عالٍ بالأعطاب السياسية. ومن الأُسُس الجوهرية في تمتين قوة الحراك هي التنظيم العالي المُتماسك أثناء التظاهر واستخدام الشعارات واللافتات الوطنية المُناسِبة والصحيحة في سوح التظاهر، التي تشير إلى نُضج المحتجين ووعيهم وتحرك مشاعر الرأي العام، فلا يُمكن الانتصار على السلطة السياسية، ما لم يمتلك الحراك الجماهيري كل الآليات الأخلاقية والتنظيمية المضادة، ولتأمين الحراك من الاختطاف، فمن المُفترض أن يتم زرع خلية أمنية من الحراك في داخل الحراك، مهمتها كشف خُطط المُندسين والمُتربصين بالتظاهرات، وعزلهم وفضحهم، وهنا نحتاج إلى درجة عالية من الفطنة، وإلى عملية إحصاء وتشخيص عناصر الحراك لكي يعرف المتظاهر جيدًا من هو الدخيل ومن هو المحتج الحقيقي، وتفويت الفرصة على السلطة لتوريط الحراك في العنف والفوضى وإغراقه بعوامل الفشل والاتهام.
ومن أجل تنويع وبناء توافق الآراء في داخل الحراك ولضمان صلابته، يجب أن تُشارك فيه الطبقات الكادحة والمُهمشة والحركة النسوية بقوة، ويجب على المحتجين تنويع عضويتهم في الحراك على أسس تتقاطع مع الطبقية والجهوية والدين والعرق والجنس والعمر، وما يجب أن يرتكز عليه الحراك كذلك، هو الذاكرة القوية، وأعني بذلك عدم نسيان التضحيات الجسام والتذكير دائمًا بالشهداء وصورهم ومظلوميتهم والدعوة لمُحاسبة المُذنبين لكي لا يُتهم الحراك بالنكران والجحود والقبول بالتعايش مع ظلم السلطة والسماح لها بتجديد عملياتها القمعية دون مُجابهتها وهزمها.
ما يحتاجه الحراك في العراق هو القوة التنظيمية الحاسمة والإستراتيجيات الناجحة التي تُبقيه في خانة الاعتراض المُجتمعي
ومقابل هذا يجب السعي للمحافظة على السلمية وعدم التحرك بعقلية ثأرية، وإنما بعقلية التحشيد السلمي والأخلاق والتنظيم، ويجب أن يكون المشاركون على استعداد لتقديم التضحيات من أجل القضية الجماعية، وأن يؤمنوا بقوة العمل ومقاومة العُنف، إذ أن اللاعنف هو مقاومة نفسية يُمكنها أن تكسر شوكة السلطة التي تسعى إلى قمع المحتجين والنهج السلمي في الحراك الشعبي، وهو أيضًا ورقة ضغط أخلاقية بإمكانها فضح استبداد السلطة أمام الرأي العام.
اقرأ/ي أيضًا: خطاب السلطة.. الحياة بوصفها كابوسًا
ومن نقاط قوة الحراك هي تحديد الأوقات المثالية للتظاهر والانسحاب، واعتقد أن التظاهر الأسبوعي أو عدة أيام في الأسبوع، أفضل من التظاهر اليومي الذي يضعف الحماس ويسبب الملل بين الجموع المُحتجة، مع المحافظة في ذات الوقت على أماكن مُحددة للاعتصام والعصيان، ومن هذا المُنطلق يجب تخصيص يوم في الأسبوع أو يومين تكون فيها التظاهرات على أعلى مستوى، ويتم فيها التركيز على المشترك الوطني والقضايا المصيرية، والتعامل معها بجدية تامة. وبالطبع يحتاج الحراك الشعبي إلى الدعم اللوجستي، وهذا الأمر يتطلب إنشاء صندوق تبرعات يُمكن للجميع المساهمة فيه، ويجب أن يكون بين أيادي أمينة. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يكون هناك مراقبين قانونيين يحيطون بالحراك الشعبي، ولديهم الاستعداد والإمكانية على التدخل القانوني لمُساعدة من قد يُعتقلون في التظاهرات أو يتعرضون للقمع.
الوجه الإعلامي للحراك الشعبي لا يخلو أيضًا من الأهمية، ولذلك يجب أن يكون للحراك هيئة إعلامية ومصورين ومحررين مهمتهم التوثيق وتصميم النشرات الأخبارية والصحفية، والبيانات المتعلقة بتطورات الحراك وأحداثه. وما يتوجب توخي الحذر منه هو الابتعاد عن إعلام السلطة المغرض الذي يحاول إغراء القوى المُحتجة بالظهور الإعلامي، ولجرها إلى نوع من التصالح والتعاطي مع السلطة، ولذلك أرى من الأفضل أن يتشكل الصدى الإعلامي للحراك وفق مبدأ التعددية، ويكون الحوار مفتوحًا، بمعنى تظهر عدة شخصيات من الحراك والمثقفين الوطنيين الداعمين للحراك في حلقة نقاشية عامة على قناة محايدة أو قناة إلكترونية خاصة بالحراك الشعبي.
في النهاية يُمكن القول إن الحراك الشعبي العراقي حقق الخطوة الأولى، وهي الدفع بثقافة العقل المحتج إلى الواجهة، وتحويلها إلى عرف اجتماعي، وما يحتاجه الحراك في مستوى تطلعاته هو القوة التنظيمية الحاسمة والإستراتيجيات الناجحة التي تُبقيه في خانة الاعتراض المُجتمعي، وتحول الاعتراض ضد فساد السلطة إلى نمط حياة يحظى بمقبولية شعبية واسعة النطاق، ومن المهم عدم تأطير التظاهرات وإبعادها بأكبر قدر ممكن عن شراء الذمم والقيادات الانتهازية الموالية للسلطة، وما يجب أن يطبقه الحراك الجماهيري العراقي، هو رفض الهيمنة الخارجية بكل صنوفها وتدخلاتها، وعدم التعاطف مع أي طرف وإعطاء الأولوية للقضية الوطنية الداخلية دون سواها، وما يجدر ملاحظته دائمًا، هو تحديث الأفكار التوعوية بين صفوف المحتجين، ونقد الأخطاء بشكل مُستمر، للحفاظ على طابع الحراك السلمي والحضاري، والأهم، الصبر وعدم التسرع والتحلي بالحكمة والروية حتى بلوغ الأهداف المنشودة والتأسيس لمشروع حراك مجتمعي تقدمي مُترابط، وثقافة تظاهر تستمر بالتنقل عبر أروقة الزمن مع الأجيال القادمة، ثقافة قادرة على تحصين الدولة وحفظ كرامة مواطنيها وتحريرهم من عقلية الخضوعية والاستسلام للجلاد.
اقرأ/ي أيضًا: