17-يوليو-2020

الشرعية التي ابتدعتها هذه السلطة شرعية تطلق العنان لعطشها تجاه الموت (Getty)

فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل. علي بن أبي طالب

معظمنا يعلم أن إزهاق حياة البشر لا يحدث إلا لإكراهات شديدة، مثل المعارك التي تًزّج فيها الجيوش لاعتبارات قومية، كالدفاع عن حدود البلد. بالطبع لا تكتسب هذه الفظاعات بعدًا شرعيًا إلا في الحالات القصوى للدفاع عن النفس، ويكابد فيه المقاتل كروبًا نفسية مؤلمة وشديدة التأثير عليه لاحقاً. عمومًا يمكننا "تبرير" القتل في حالات الدفاع القصوى عن النفس أو حدود البلد بشكل عام حينما يتعرّض لاستباحة خارجية يتعمّد فيها العدو لإيلامك، ويتحيّن الفرص لقتلك. وهذا ما دفع المؤسسات الدولية لشرعنة الدفاع عن النفس ومقاومة المعتدي. فللموت "مقامات" في الفكر السياسي الحديث، أرفعه أن تموت دفاعًا عن حدودك القومية.

أشك أن قتلة الشباب يشعرون بوخزة ضمير، لأنهم ضحايا وسوسة سلطوية، تنفث في صدورهم شرعيات زائفة، تدفعهم للقتل بدم بارد وهم في أقصى درجات الشعور بالحق

 وبصرف النظر عن الجدوى والآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي ستترك آثارها على المجتمع المقاوم، وبصرف النظر عن المقارنة "العقلانية" بين المقاومة وعدمها، وما هي حجم المكاسب في الحالتين. فالموضوع أبعد من حالات القتال الكلاسيكية؛  لسنا بصدد رسم خطة حربية، ولا محاضرة في حالات الدفاع عن النفس، بل نحن هنا في حالة تساؤل دائم عن حالات القتل المجاني التي يحفل بها بلدنا العزيز! وعن الشرعيات المنفلتة التي تستبيح لنفسها تغييب وجودك متى ما رغبت بذلك. مثلًا، تم تغييب وجود العديد من شباب تشرين لأنهم متظاهرون، أو ربما، لأنهم من سائقي "التوك توك"! أو ربما لأنهم من نفس مذهب السلطة! من يدري!

اقرأ/ي أيضًا: الطائفية السياسية: إعادة نظر

من لديه الحق لتغييب وجودك لتغدو في قائمة الموتى؟! هل يمكن للدولة أن تقدم على قتل مواطنيها بحجة بسط الأمن؟ ما هي حدود شرعية الدولة في توسيع رقعة الموت؟! أتذكر عبارة في أحدى كتب الباحث الفلسطيني- الكندي وائل حلّاق، ما مضمونها، أن الدولة الحديثة حلّت محلّ الإله؛ فهو يعاقب المسيء والدولة تعاقبه كذلك، طبقًا لمعاييرها المحددة للمواطن الصالح والمواطن الطالح، والإله يحتضن الشهداء الذي يقاتلون من أجله، والدولة تحتاج الجيوش للدفاع عن أيدولوجيتها وتزج بالمزيد من الشهداء من أجل ذلك. باختصار: الإله يعاقب ويثيب والدولة كذلك. وفي نفس السياق، أتذكّر عبارة لباحث غربي يقول فيها، الدولة كيان لاهوتي مٌعَلمَن. إنه كيان يتسمد سلطته من الدنيا، إله دنيوي محض.

فمن هنا يبدو أن الولايات المتحدة أبادت آلاف الأبرياء بالقنبلة الذرية دفاعًا عن حقها في تشريع نمط من أنماط الموت؛ الموت المناسب لمن يتخطّى دائرتها اللاهوتية المٌعَلمَنة إن صحّ التعبير. والموت لكل من يحارب نمط الحياة الأمريكية. دولة تقتل، بكل بشاعة، من أجل أمنها الوطني، وسلطة تقتل من أجل أمنها الشخصي وديمومتها، لا من أجل ديمومة الحياة ومؤسسات الدولة! الأولى احترفتها القوى المهيمنة، بينما الثانية احترفتها السلطة عندنا. الأولى قادرة على الدفاع عن أمنها الخارجي وبسط أمنها الداخلي بمزيد من الحقوق والواجبات وصيانة الحريات وكرامة الإنسان. والثانية تدافع عن شرعيتها حتى لو قدر لها قتل ثلث الشعب، مقابل تغييب الحريات، وقتل مواطنيها بالمجان وسلب كرامتهم.

على أي حال، يمكننا أن نجادل ونسهب كثيرًا في شرعية الدولة القومية، فهي في نهاية المطاف حدود ومؤسسات وشخوص وقوانين تحدد سماتها القومية. فالكلام عن هذا الموضوع يبدو ضربًا من التجديف، أعني التشكيك في شرعية القتال من أجل الدولة وحدودها القومية؛ فهذه قيم ومعايير سائدة ومتفق عليها بين سائر دول العالم من مركزها إلى أطرافها، بل أن دول المركز ذات الثقل الإمبراطوري هي الأكثر إيغالًا وتورطًا في حروب الماضي والحاضر والمستقبل. ولا نظن أنه سيأتي اليوم الذي تنتهي في الحروب وشرعنة الموت طالما توجد دول، وحدود، وثقافات متباينة، وهويات متصارعة. لكن بماذا نجادل عطش السلطة المنفلتة لقمع الناس وقتلهم وسحق كرامتهم؟، ذلك أنه يمكنك استباحة الحدود، في منطق السلطة، وجعل الغرباء يتحكمون في مصيرنا، لكن لا يمكنك التفوه بمعارضة السلطة، فهي مأمورة على أي حال بقتل رعاياها.

بعد أن قامت أوروبا الحديثة بترويض لاهوتها وأسقطت عليه صورتها المعلمنة، وسيّرته طبقًا لأشواق البرجوازية الصاعدة آنذاك، فتظافرت النخب المتنورة من العلماء والفلاسفة والاقتصاديين والمفكرين السياسيين، فأنتجوا مولودهم المعولم، فكان على صورة الدولة  القومية الحديثة. فعلى الرغم من أن هذه الدولة زجّت بشبابها بحربين عالميتين راح ضحيتها ملايين القتلى والمعاقين والمفقودين، غير أنها وعت الدرس جيدًا: التضامن من أجل المنفعة المتبادلة، والرفق بمواطنيها. أما السلطة في مشرقنا العربي ظلت تستمد شرعيتها من ذاتها، وتضفي عليها قداسة فارغة وموهومة. السجن أو الموت أو الإعاقة، هو الثمن الذي تدفعه مقابلًا لمعارضة السلطة حتى لو كنت يافعًا.

يبدو أن كياننا العربي عمومًا، والعراقي على وجه الخوص، ظل كيانًا لاهوتيًا محضًا! تتمثّله السلطة طبقًا لصورتها المشوّهة، وشظاياها المتكسرّة، فبعد إسقاط الصورة الدنيوية المعلمنة، وإسقاط شرعية حق الحياة عمومًا، يظهر لنا كيان لاهوتي شرير متعطّش للدم لا يتمتع بصفات رحمانية. يمكننا أن نطلق عليه "لاهوت الموت المجانيّ". لا يقتل من أجل مصلحة قومية، بل يقتل طمعًا بخلافة سلطة الموت! فمن هنا يتناسى السلطويون، أن أبدية الموت لا خلافة لها، وحده الموت من يقرر ذلك. فإذا تناست السلطة ذلك فالموت لا ينسى.

في سيرة الإمام علي بن أبي طالب، الذي تتغنى به النخب الحزبية الشيعية، ما يضعنا على نكتة لها أكثر من مغزى، وهي أنه لم يتورط بقتل خصومه على الإطلاق، بل كان جنديًا باسلًا يدافع عن حياض الدولة الإسلامية الناشئة، ويقارع الفتن حفاظًا على إيمانه العميق بروح الإسلام. فهو لم ينكّل بخصومه ولم يأمر بقتلهم بحجة الدفاع عن بيضة الإسلام. أيًّا ما يكن الأمر، ومهما كانت شدّة الاختلاف في هذا الطرح التاريخي، لكن لا يمكنك أن تنكر، إن سلطة "اللاهوت الشرير" هذه لا تتمتع بأدنى درجات الخصومة النبيلة، هذا أن اعتبرنا المعارضين لها من الشباب العزل خصومًا سياسيين!

ما هي الشرعية التي تبيح لهذه السلطة تغييب وجود مئات الشباب وتصفيتهم بالقناصات والكواتم؟ هل استباح هؤلاء الشباب حدود الدولة القومية؟ هل شكلّوا تهديدًا للأمن الوطني؟

إن شرعية الموت التي ابتدعتها هذه السلطة، شرعية تطلق العنان لعطشها تجاه أبدية الموت!، والأبدية هي اللانهاية. ولذلك حينما يشعر الموت أن هناك من يزاحمه على أبديته، يمكر بخصومه الذي تقمصّوا هويته!. وخصومه هم أرباب السلطة الذين لم يتعظوا ممّن كان قبلهم. وهذا السؤال البريء سيبقى يطاردنا، لماذا لا يتعظّ السلطويون من مكر الموت ويتفكرون في سيرة أسلافهم من ضواري السلطة الغابرين وقد جاءهم الموت بغتة من حيث لا يشعرون؟ الجواب: ربما لأن الموت يمكر بهم ويشاغلهم بالطمأنينة الزائفة، ويلهمهم الحقيقة المشوهة، فيقتلون باسمه ويستخلفونه ثمّ سرعان ما يمكر بهم بعد طول الأمل.

اقرأ/ي أيضًا: ورطة الديمقراطية

لقد استباح صدام حسين لخياله الشرير مختلف صنوف القتل؛ غيّب العديد من الأبرياء عبر جدع أنوفهم، ودفنهم في مطامير السجون، وتفجير أجسادهم وهم أحياء، ورميهم من بنايات عالية وهم معصوبون، والعبث بزوجات الضباط الذي يشك بولائهم (بشهادة حامد الجبوري).. والكثير الكثير من صنوف الموت التي شرعنها صدام حسين.. لكن مَكَر الموت بصدام حسين بطريقة مُذلّة بعد أن زاحمه على أبديته.

أنا أشك أن قتلة الشباب يشعرون بوخزة ضمير، لأنهم ضحايا وسوسة سلطوية، تنفث في صدورهم شرعيات زائفة، تدفعهم للقتل بدم بارد وهم في أقصى درجات الشعور بالحق! ما هي الشرعية التي تبيح لهذه السلطة تغييب وجود مئات الشباب وتصفيتهم بالقناصات والكواتم؟ هل استباح هؤلاء الشباب حدود الدولة القومية؟ هل شكلّوا تهديدًا للأمن الوطني؟ هل ثبُتَ ولائهم لدول الجوار؟! لا جواب يمكنه أن يشفي غليل النفس وأحزانها المتوالية على فتيان معظمهم لم يبلغ الحلم، ذلك أن السؤال المفترض يحيلنا إلى وجود دولة مؤسسات فاعلة ومهيمنة بقطاعاتها الاقتصادية والتربوية والتعليمية والخدمية. وجميعها إن لم تكن معدومة، فهي، في أحسن حالاتها، دولة مؤسسات رخوة لا تجيد سوى اغتيال خصومها الأبرياء، وفي ذات الوقت تفرج عن خصومها الأشرار بفعل الصفقات المستمرة للحفاظ على وجودها.

 معادلة معقّدة ومجنونة: يموت الأبرياء في هذا البلد فيما يتمتع الفاسدون بلذيذ العيش، فدائمًا ما يخبرنا تاريخ السلطة، إن الأبرياء هم الحطب المفضل لبناء معاقلها الهشّة. إن الأبرياء في الدولة التي تحترم نفسها يتصدرون المشهد في المناسبات الوطنية، وتنتهز الدولة الفرصة للتذكير بأمجادهم وإقدامهم وشجاعتهم للحفاظ على حدود الدولة القومية، وتفتخر بالحفاظ على معارضيها. لأنها، وببساطة شديدة، دولة! بينما السلطة المنفلتة لا تجيد سوى تنكيل معارضيها وتصفيتهم، شريطة أن يكونوا أبرياء!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قراءة في أسباب فشل النظام السياسي العراقي

انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن