15-يوليو-2020

السلطة العراقية الجديدة هي سلطة زبائنية ومحسوبية بامتياز (فيسبوك)

تعرف العلاقات في هذا النموذج [الزبائني] بوصفها تتم بين أشخاص يخلقون علاقات تبعية عبر تبادل الخدمات بين شخصين، هما الراعي والزبون واللذان يسيطران على موارد غير متكافئة. برتران بادي- الدولة المستورَدة.

الأحداث العراقية حبلى بالمفاجأة، وعلى الرغم من قسوتها التي لا تُحتمل، غير أنها تشكّل مادة غزيرة للتفكير. إن الواقع السياسي العراقي الحافل بالتعقيدات يسلّط على طرق تفكيرنا كمية هائلة من العنف لتحريك الراكد، وتوليد أسئلة جديدة نبغي من خلالها العثور على مادة تحليلية جديدة. فهي بالتالي محاولات لا تتمتع بأحكام قطعية بقدر ما هي محاولة لطرح إشكاليات جديدة عبر إعادة النظر في طرق تحليلنا للواقع السياسي العراقي الراهن. لذلك ثمّة سؤال يخامر الذهن ويلح عليه مفاده: هل حقًا أن  مفهوم الطائفية السياسية يمكنه أن يحلل واقعنا السياسي بشكل واضح وجلي؟ هل يصلح هذا المفهوم كإطار مرجعي لتفسير السلوك السياسي لهذه النخب السياسية؟ هل يمكن أن تكون الطائفية السياسية هي الشرعية الوحيدة التي ترتكز عليها "النخب" السياسية العراقية؟

 يستمد السياسي العراقي شرعيته من وقائع لا تنتمي إلى الشرعية الديمقراطية بقدر ما يستمدها من قضايا تاريخية تنتمي إلى حالة ما قبل الدولة الحديثة

من خلال هذه الأسئلة تتقافز في الذهن عدة حقائق، ولعلها ستحيلنا إلى مشكلة أخرى، وهي أن هؤلاء المُسَيَّسين يتعكزون على شرعيات عدّة لا تقتصر على الشرعية الطائفية. من ضمن هذه الحقائق: "المَلَكية"، "الإقطاع"،" القبلية"،" الزبائنية"، "الطائفية " وغيرها.. ونحن كما نرى كل هذه الشرعيات حاضرة ومتحكمة في المشهد السياسي، ذلك أن السياسي العراقي يستمد شرعيته من وقائع لا تنتمي إلى الشرعية الديمقراطية بقدر ما يستمدها من قضايا تاريخية تنتمي إلى حالة ما قبل الدولة الحديثة. يمكنك أن تعثر على شرعيات مختلفة باستثناء الشرعية الديمقراطية، فهي النقيض التاريخي لكل أشكال الاستحواذ المشوّه للسلطة، الذي يقف بالضد من كرامة الإنسان. ويمكن وصف هذه الزمرة السياسية بأنها سلطة الشرعيات المشَوّهة، شرعيات يناقض بعضها بعضًا، غير أنها تجتمع في مركّب واحد، وهو شرعية السلطة بمفهومها الرعوي القائم على الهبات والعطايا وليس الحقوق.

اقرأ/ي أيضًا: ورطة الديمقراطية

لذلك يقتضي تمريننا النظري أن نتابع المشهد السياسي العراقي لنعثر على مفهوم جديد يكّثف هذه الظواهر السياسية التي أنتجتها السلطة الجديدة في العراق. مفهوم يمكنه أن يستوعب خرابنا السياسي. على نحو الإجمال يمكن تعداد الظواهر السياسية المنحرفة التي مني بها العراق الجديد، لكي يظهر لدينا التفسير المناسب. الفساد السياسي والمالي والإداري، الصراع على الوظائف الرفيعة من قبل جميع الأحزاب بمختلف مكوناتها المذهبية والقومية، الصراع في داخل الحزب نفسه على السلطة، إفلاس الناخبين من جميع الوعود التي أطلقتها أحزابهم المتقنّعة بقناع الطائفية، تصفية المعارضين لسلطة الفساد حتى لو كانوا ينتمون لنفس الهوية المذهبية للسلطة! فشرعية السلطة بذاتها تتفوق على جميع الشرعيات مثلما قلنا.

يقول الدكتور نزار البدران، إن "الزبائنية السياسية، كما درسها أستاذ السياسة الأمريكي جيمس سكوت، والمختص بالدراسات الاجتماعية الفرنسي جان فرانسوا ميدار، هي العلاقة غير المتكافئة في القدرات والمركز بين طرفين، يستعملها الطرف القوي، أي المسؤول السياسي لشراء ذمم الناس مقابل خدمات اجتماعية، قد تكون حقوقًا أصلًا أو تجاوزًا للحقوق". بمعنى أن الشرعية التي تستمدها السلطة قائمة على علاقة زبائنية بين الراعي والزبون (المواطن)، وهي علاقة غير متكافئة يخضع فيها الزبون لإكراهات السلطة مقابل بعض الهبات التي يمنحها الحاكم لشراء الولاء، وليس بالضرورة أن تكون هذه الهبات تخضع لشرعية قانونية، المهم هو شراء الذمم لضمان الامتداد في السلطة. ويبدو من هذا التعريف أن الطائفية السياسية وحدها لا تكفي لتفسير واقعنا السياسي، لأنّها في العمق، حتى لو تقنّعت بقناع الطائفية، سياسة زبائنية ومحسوبية بامتياز، لا يمكن ضمان ديمومتها بالخطابات الطائفية فحسب، بل من خلال شراء الذمم وكسب الأصوات من خلال الهبات والرشا التي تقدمها، خصوصًا، في كرنفالاتها الانتخابية.

في أيام الانتخابات الساخنة يهرول المرشحون الشيعة للمناطق الشيعية الخربة، والتي تنعدم فيها شروط  العيش البشري، لمنح الفقراء بعض الأغطية، والأموال من فئة العشرين دولارًا، أو توزيع الشرائح الإلكترونية لخدمات الاتصال بقيمة عشرة دولارات! أو إطلاق الوعود بتوزيع الأراضي السكنية على مستحقيها. أكثر من ذلك، تٌفتَتَح سوق مالية ضخمة في البرلمان العراقي لشراء الأصوات وبيع المناصب بآلاف الدولارات. وهو سوق، على ما أظن، فريد من نوعه، ابتدعته الزمرة السياسية الحاكمة في العراق. إنه سوق ينشط أيام الانتخابات وتكثر فيه الزبائن ويكثر في الرعاة المرشحون لنهب المال العام وتوزيعه على زبائنهم.

هذه الفجيعة الكبرى أوسع من كونها طائفية سياسية، ذلك إن الأحزاب فيما بينها ابتدعت عقدًا سياسيًا غير مكتوب، مفاده: التغطية المتبادلة لكلا الطرفين جرّاء السكوت على زبائن بعضنا البعض. الأحزاب الحاكمة، بمختلف هوياتها المذهبية، زبائن بعضها لبعض، فخطاب المكونات والمحاصصة هو القشرة الداخلية التي توحي بالنديّة فيما بينهم، فالخطاب الطائفي بعمومه خطاب ماكر وموارب يغازل الخائفين من أحداث التاريخ السياسي القريب. المهم، أنهم يشتركون في جوهر واحد، تنكيل واحتقار ناخبيهم. إما الخطاب الطائفي، ولغة المحاصصة، هما الفزاعة التي تؤمّن الخائفين، وتبقيهم في سباتهم العميق. والخائفون هنا هم الناخبين الغارقين بأشواقهم المذهبية التي حولوا من خلالها المذهب إلى طقس رتيب وديانة شعبية تترجم نفسها على أنها نمط من أنماط التحرر الذي تمنحه الديمقراطية، وما عدا ذلك فهم زبائن ليس إلّا!

السلطة العراقية الجديدة هي سلطة زبائنية ومحسوبية بامتياز، قائمة على نهب المال العام و شراء الذمم، ولا يقف أمامها دين أو مذهب؛ إنها سلطة عابرة لكل أشكال الطائفية، سلطة متفقة فيما بينها لاحتقار الشعب وتجريده من حقوقه الشرعية بخطابات خالية من مضمونها. من يقف أمام هذا السلطة سيموت حتى لو كان من نفس المذهب!

 الخطاب الطائفي، ولغة المحاصصة، هما الفزاعة التي تؤمّن الخائفين، وتبقيهم في سباتهم العميق

لا أدعوك لتصدّق معي، أو تنفي الطائفية، فهي موجودة على أي حال، لكن أدعوك للتفكير ضمن إطار مرجعي جديد، ضمن إمكان جديد، يستوعب كل هذه الظواهر ويوحدّها، مفهوم جديد له القوة التحليلية الكافية والشمول بحيث تتصاغر أمامه الطائفية مقارنة بالفجائع المروّعة التي تحدث في عراقنا الجديد. هل هذه سلطة طائفية فحسب، أم أنها سلطة زبائنية ومحسوبية؟ هذا السؤال الذي قد ينفعنا كتمرين نظري لفهم الواقع وإعادة النظر بتحليل الظواهر السياسية، فـ"على المرء أن يسعى بمقدار جهده، وليس عليه أن يكون موفقا".. وقانا إياكم من شر الأحكام القطعية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قراءة في أسباب فشل النظام السياسي العراقي

في ذكرى تحرير الموصل.. شروط الأزمات "باقية وتتمدد"