23-يوليو-2020

لكل جماعة حفرتها المقدسة التي باتت في ذات الوقت قبرها الذي لا تستطيع التخلص منه (فيسبوك)

يحترف العرب في وقتنا الحاضر قضية واحدة وهي: ندبان حظهم، وشتم بعضهم البعض، وإرجاع كل مآسيهم، ونكباتهم، وخيباتهم، وتفرقهم، إلى الآخر المتآمر عليهم، الذي يهدد دينهم، ويريد تحطيمهم لأنهم خير أمةٍ أُخرجت للناس! ويريد سرقة ثرواتهم، وتمزيق دولهم، وغيرها من الحجج التي يسوقونها من أجل إراحة ضميرهم، وليعبث من يعبث في مصيرهم، فهو متآمر على أي حال. ولم يفكر غالبيتهم في كيفية التخلص من واقعهم المرير، وهنا لم أقل كلهم حتى لا أظلم من يفكر فعليًا في تخليصهم من المأزق الذي يعيشونه، وهو بكل الأحوال أما مطارد، أو محارب، أو معزول يعيش حالة اغتراب شديد ولا يسمعه أي أحد، ويموت كمدًا، أو حسرةً على ما آلت إليه أحوال العرب. فمن يفكر يريد أن يحرفنا عن تقاليدنا، وأعرافنا التي جبلنا عليها، وحالهم كحال الذين قالوا هذا ما وجدنا عليه آبائنا، وأجدادنا. ومع كل هذا وغيره من الكوابيس لا يتعظ العرب مما هم فيه، ولا يهمهم البحث عن السبيل الذي من المفترض أن ينقذهم من كارثتهم.

مصير الشعوب العربية هو واحد مهما اختلفت المسميات، ولا تحقق الدول العربية أمنها ومصالحها دون أن تؤمن بوحدة المصير

أكتب السطور أعلاه ليست من باب جلد الذات، أو التقليل من شأن العرب، أو تحقيرهم، فأنا عربي في الأخير. بيد أن الوضع الذي نمر فيه من المحيط إلى الخليج كارثي، ولم يعد يطاق، وما عاد السكوت مقبولًا، ولكم كانت هذه العبارة تسحرنا أي عبارة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، إلا أنها باتت من بين أكبر كوابيسنا، لأننا لم ندرك حجم الثقل الذي تمثله هذه العبارة، ومدى أهميتها في تقرير مصيرنا كشعوب عربية، التي لا تعي أن مصيرها واحد مهما اختلفت المسميات: تونسي، ليبي، سعودي، مصري، عراقي...  إلخ، وكلامي هذا ليس خطابًا قوميًا رومانسيًا، كذلك الذي يلقيه علينا القادة العرب، فهو من الحقائق المحضة. إلا أننا وبحكم حجم الخيبات المتوالية بتنا نعتقد أن المشكلة في فكرة أن المصير العربي واحد، فبات القطري يفكر في قطريته، والأردني يفكر في أردنيته، والعماني في عمانيته وهلم جرًا. لكن، نطرح السؤال الآتي: هل حققت الدول العربية أمنها، أو مصالحها؟ بالتأكيد لا.

اقرأ/ي أيضًا: العراق وجيرانه.. لعبة "جر الحبل" في ملعب الطاقة

وهنا أود أن أسوق مثالًا يتعلق بالقارة الأوروبية، فدولها، وبعد مخاضاتٍ عسيرة، وحروب كارثية خضاتها فيما بينها كالحربين العالميتين الأولى، والثانية، تيقنت بعدها أن مصيرها واحد بالتالي لا بد من الوحدة، والتكاتف، فإن لم يجعمهم الدم، أو اللغة، أو العرق، فعلى الأقل هنالك مصالح اقتصادية، وسياسية، وأمنية تجمعهم، بالتالي وصلوا إلى فكرة الاتحاد الأوروبي، التي نجحت بعد خطوات عدة ابتدأوا فيها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام (1945)، والخطوة الأولى كانت بقيام منظمة الفحم والصلب في عام (1951)، وكان الهدف الأبرز من وراء ذلك أن لا حروب بعد الآن بين الدول الأوروبية، ولا سيما بين فرنسا، وألمانيا، وكل شيء سيحل بالطرق السلمية، وهذه هي أوروبا ماثلةً أمامنا، التي باتت حلم غالبية الشباب العربي، الذي أخذ يركب أمواج البحار من أجل الوصول إلى القارة الأوروبية "الاتحاد الأوروبي"، عله يجد ما لم يجده في أمة العرب.

الحال الذي وصلنا إليه له أسبابه العديدة منها: اتفاقية سايكس - بيكو، ووعد بلفور، وعدم استيعابهم لفكرة الدولة بمفهومها الحديث واضحة المعالم جغرافيًا، وحدوديًا، فهم كانوا على الدوام يحلمون بدولة عربية كبرى؛ إلا أن أحلامهم هذه اصطدمت بأهداف الاستعمار الأوروبي، الذي سيطر على العالم العربي بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، بالتالي إن فكرة الدولة الحديثة ذات الجذور الأوروبية، تبدو غريبةً على الشعوب العربية لا سيما في تلك المدة، إذ اعتادت على الحكم الإمبراطوري الإسلامي منذ العهد الأموي وحتى العثماني، مما أدى إلى تضارب الرؤى بين النخب التي أمسكت زمام السلطة، وبين شعوبها، إذ أضحت الدولة العربية الحديثة دولةً تبحث عن أمة، لا العكس، ربما تعد مصر استثناءً لهذه المعادلة، أحدث ذلك شرخًا عميقًا في العلاقة بين الجانبين أي السلطة، والشعب. أيضًا عدم وجود الأنموذج الناجح الذي يمكن أن تهتدي به الشعوب العربية، كما أن العرب لم يتناسوا أحقاد الماضي، التي اجتروها معهم، لتزيد من الحمل الذي يثقل كاهلهم، وكذلك إقامة "إسرائيل"، والهزائم العسكرية التي تلقوها على يدها في أكثر من حرب، وتعد نكسة حزيران عام (1967) حرب الأيام الست؛ الهزيمة الأقسى على الشعوب العربية في القرن العشرين، وضرب بسببها المشروع القومي العربي برمته، إذ كانت صدمةً كبرى للعرب، وهي من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى صعود الأصولية الإسلامية، لأن العرب رأوا أن الحل يقتضي برجوعهم إلى الدين، والتمسك به، فإن السبب الرئيس لنكسة (1967) هو ابتعادهم عن الدين، وهكذا صعد نجم العديد من التيارات الأصولية في العالم العربي منذ ذلك الوقت. وأيضًا من الأسباب الأخرى الاحتلال العراقي للكويت، الذي ضرب النظام العربي بالصميم، وعمليًا أدى إلى وفاته بعد أن كان يحتضر، وكذلك الاحتلال الأمريكي للعراق عام (2003). هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن الدول العربية الحديثة فشلت في بناء النظم السياسية العادلة، القائمة على أساس الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، والعدالة، بالتالي تفشى الاستبداد، والظلم، والفقر، والتخلف، والطائفية السياسية، واحتكار السلطة من قبل عوائل ملكية محددة، أو من قبل فرد، أو من قبل سلطة عسكرية، أو نخبة أوليغارشية فاسدة.

هذه الأسباب وربما غيرها أدت إلى أن تكون الدول العربية مرتعًا للصراعات الداخلية، التي أفضت إلى أن تكون الجغرافيا العربية، ميدانًا خصبًا للمشاريع الخارجية، التي استطاعت استثمار حالة الفراغ، والشتات العربي، وتأييد بعض الفئات العربية التي تعرضت للأقصاء، والاضطهاد، والتهميش، لتنفذ إلى الدول العربية من أجل تحقيق مصالحها، وكذلك لم تجد أمامها مشروعًا عربيًا إستراتيجيًا يحفظ مصالح الشعوب العربية كافة؛ ولم توجد دولة عربية مركزية قائدة لهذا المشروع، بالتالي أضحت مسألة اللعب على الساحة العربية مكتملة الأركان.

وعليه نجد أمامنا مشروعًا أمريكيًا، وروسيًا، وإيرانيًا، وتركيًا، و"إسرائيليًا"، وصينيًا، وأوروبيًا، إلا أننا أمام كل هذه المشاريع الطامعة في دولنا، لا نجد أي مشروعٍ عربيٍ يقف بالضد منها، وهذا الغياب له أسبابه منها: تراجع أدوار القوى العربية المركزية كمصر، والعراق، وسوريا، والجزائر، الدول التي تمتلك أسباب النجاح والقيادة العربية، وكذلك الصراع على الزعامة، وخسران المشاريع القومية التي تبنتها القوى العربية لا سيما مشروع جمال عبد الناصر، وتنازل مصر عن دورها القيادي بعد عقدها لاتفاقية السلام مع إسرائيل عام (1979)، والصراع ما بين البعث السوري، والعراقي، والتخلي عن القضية الفلسطينية مما أدى إلى دخول إيران، وتركيا على خط استثمار التخلي عن هذه القضية المركزية بالنسبة للعرب؛ ولم يجد الشعب الفلسطيني بدًا من قبول اليد الإيرانية، والتركية، لأن اليد العربية أصابته في مقتل، ومن الأسباب الأخرى فشل جامعة الدول العربية، وربما غيرها من الأسباب، التي أشرنا إليها فيما سبق.

لذلك لا نلوم الدول الأخرى الباحثة عن تحقيق مصالحها، لأنها استثمرت الفراغ العربي، لأن ذلك من طبائع السياسة، والقوة، والمصلحة، فعندما تترك الفراغات الجيوسياسية، من الطبيعي أن يأتي من يحاول سدها، ولكن، طبقًا لمصلحته لا مصلحتك، بل كل اللوم يقع على الشعوب العربية، فضلًا عن أنظمتها السياسية، ونخبها. مثال على ذلك عندما سأل الكاتب والصحفي المصري الراحل (محمد حسنين هيكل) الشاه الإيراني (محمد رضا بهلوي)، في معرض لقائه به في سبعينيات القرن العشرين، لماذا دعمت أكراد العراق؟ أجابه بكل بساطة؛ إنني وجدت أن ذلك يخدم مصالحي فدعمتهم. بالتالي نجد أن إيران الثورة تتبنى فكرة "أم القرى"، وتركيا تتبنى "العثمانية الجديدة"، وأين ميدان هذه المشاريع؟ إنه الميدان العربي، وكذا الحال بالنسبة للمشروع الإسرائيلي الراغب بتفتيت الدول العربية، والمشروع الصيني "الحزام والطريق"، والمشروع الأمريكي الذي يرغب باستمرار الهيمنة على المنطقة، بينما تهدف روسيا إلى تأمين تواجدها في المياه الدافئة.

فشلت الدول العربية في بناء النظم السياسية العادلة، القائمة على أساس الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، والعدالة

 بينما العرب نائمون ويعيشون على وقع أحلام اليقظة، بل هم متصارعون على مسألة أيهما أحق بالجنة؛ الشيعة أم السنة، ومن أحق بالخلافة؛ أبي بكرٍ، أم علي بن أبي طالب وغيرها من الجدالات العقيمة، وهنا تذكرت القصة التاريخية التي تعرف بالجدل البيزنطي، إذ يذكر التاريخ أن البيزنطيين، كانوا يتجادلون على قضية هل أن الملائكة ذكورًا أم إناثًا؟ في الوقت الذي كانت تحاصرهم الجيوش العثمانية بقيادة (محمد الفاتح)، التي استطاعت القضاء على الإمبراطورية البيزنطية. فما أكثر جدالاتنا البيزنطية نحن العرب، وكم هي عقيمة في غالبها؟!

اقرأ/ي أيضًا: معوقات إقامة النظام الديمقراطي في العراق

وأجد أن أخطر المشاريع الإستراتيجية على الوطن العربي بحكم قربها الجغرافي، وتهديدها الوجودي للدول العربية، هي: المشروع الإسرائيلي، المشروع التركي، المشروع الإيراني، وربما بدرجةٍ أقل المشروع الأثيوبي، تشترك هذه المشاريع في نقطة واحدة، وهي ضرورة استمرار ضعف الدول العربية، وضرورة العمل على تفكيكها، وإدخالها في أتون حروب، وصراعات داخلية، أو فيما بينها، تشغلها عن أهدافها الحقيقية، وما يتطلبه أمنها القومي، ومن ثم أن ثلاثة مشاريع هي: التركية، والإيرانية، والأثيوبية، تحاصر الجغرافيا العربية من ثلاثة جهات: تركيا من الناحية الشمالية، وإيران من الناحية الشرقية، وأثيوبيا من الناحية الغربية، فيما تقع إسرائيل في قلب هذه الجغرافيا، وهكذا تجتمع هذه المشاريع على محاصرتها من الأطراف، أما إسرائيل فهي تعبث في قلبها، ولهذه المشاريع تحالفاتها، وارتباطاتها مع القوى العالمية، التي تتفق  معها في رؤاها ومصالحها، إذ نجد أن إيران قريبةً من معسكر روسيا الاتحادية، والصين، بينما نجد أن دول تركيا، وإسرائيل، وأثيوبيا قريبةً من المعسكر الغربي، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد. وبكل الأحوال كما أسلفنا تجتمع هذه المعسكرات على ضرورة عدم وجود دولٍ عربيةٍ قويةٍ، أو حتى دولةٍ عربية مركزية تعمل على استنهاض همم الشعوب العربية، وتعرفها بمصالحها، لأن ذلك يهدد مصالحهم، وبالتأكيد هذه المشاريع لم تنفذ لولا الوهن العربي الكبير؛ وهذه مسألة طبيعية في عالم الدول، التي يحكمها غالبًا التنافس، والتصارع، والعداء، والضعيف يكون على الدوام ساحةً للآخرين يعبثون فيها كيفما تتفق مصالحهم.

وفي ظل ما تقدم أود طرح الأسئلة الآتية: هل هنالك أمل لإصلاح الحال العربي؟ هل هنالك قدرة على إيجاد مشروع عربي إستراتيجيٍ؟ هل يمكن للعرب أن يتفقوا على هذا المشروع إن وجد؟ وكيف يمكن لهم أن يتفقوا بعد هذا الشتات الذي يمرون به؟

يقول الرئيس الأمريكي الأسبق (بِل كلينتون) في كتابه حياتي، إن "القاعدة العامة في السياسة، أنك إذا وجدت نفسك في حفرة؛ فإن أول ما تفعله هو أن تتوقف عن الحفر". بناءً على هذه القاعدة أجد أن أولى الخطوات التي يجب علينا كعرب أن نتبعها فيما لو أرادنا حلًا فعليًا لواقعنا المرير؛ هو أن نتوقف عن الحفر! وأن نعترف بأخطائنا ولو لمرة واحدة فقط، ومصارحة "غلاسنوست" أنفسنا، ومكاشفتها. إذ أضحى لدينا العديد من الحفر المقدسة، فلكل جماعة حفرتها المقدسة التي باتت في ذات الوقت قبرها الذي لا تستطيع التخلص منه، فهنالك حفر دينية، أو طائفية، أو عرقية، أو مناطقية، أو سياسية، وهلم جرا، فإذا بنا نتقاتل فيما بيننا دفاعًا عن هذه الحفر، ومستمرون في الحفر حتى بتنا لا نرى النور الذي في الأفق، ثم تأتي الدول الأخرى غير العربية لتستثمر ذلك، ولتعمل على أن تواري التراب فوقنا بشتى مشاربنا كلًا حسب حفرته، بالتالي أصبحت لهذه الدول الأرض، والسماء، والماء، والثروات العربية، بينما لم يتبق لنا كعرب سوى حفرنا المقدسة التي دفنا فيها أنفسنا أحياءً بمحض إرادتنا.

وبعد أن نتوقف عن الحفر علينا بعد ذلك التفكير بالخطوة التالية للحفر، ولنا في العديد من التجارب الإنسانية الناجحة خير معين، ولربما أفضل خطوة إصلاحية إذا ما رغبنا بحل ناجع هي الخطوة الاقتصادية، فهي حسب وجهة نظري أهم من الخطوة السياسية، فحتى تكسب الآخر عليك أن توضح له حجم المكاسب التي سيجنيها نتيجة الانضمام معك، وهذا ما فعلته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إذ ابتدأت بالاقتصاد قبل السياسة، التي أحرقت الأخضر واليابس فيها، وعندما ترى الأطراف المكاسب ستعمل من تلقاء نفسها على الذهاب باتجاه الخطوات الأخرى في سبيل تعزيزها، وفي مقدمتها الخطوة السياسية؛ لأنها تريد الحفاظ على ما كسبته، كما ترغب بحمايته، وتعزيزه في ذات الوقت، إذ كلما تشابكت المصالح، يصعب بعدها انفراط عقد الذين يستفيدون منها، لا سيما إذا ما كان ضرر الانفراط أكبر من الاستمرار، وكذلك سيبتعدون عن خيارات الحرب، والصراع، وهنا سينشأ توازن للمصالح بين الدول العربية، وهي فرضية يمكن أن تنطبق على الواقع العربي، عبر توزيع الكلف، والأعباء، والمهام، فمثلًا هنالك دول عربية غنية بمواردها الطبيعية كالنفط، هذه تكون بمثابة بيت المال العربي، وهنالك دول عربية تعد بمثابة سلة الغذاء العربي، وأمنه الغذائي، وأخرى تحوز على القوة العاملة، فضلًا عن وجود دول عربية تحوز على صفة القدرة، والقيادة السياسية، عند تكاتف هذه الأضلاع ستكون النتيجة في صالح الجميع. يبقى على القرار السياسي للدول العربية أن يسير بهذا الاتجاه، فضلًا عن ضرورة وجود إرادة شعبية عربية تؤيد هذا الاتجاه؛ ذلك عبر ترك الأمور السياسية، والآيديولوجية جانبًا، والتركيز على الاقتصاد كما أشرنا سابقًا.

كذلك هنالك قاعدة ذهبية أهملتها الدول العربية على الدوام وهي الاستثمار في الإنسان؛ فكم من الدول لا تمتلك الموارد الطبيعية، إلا أنها استثمرت في الإنسان، ولنا في دول شرق آسيا خير مثال، وأعود هنا مرةً أخرى مع (محمد حسنين هيكل)، ولكن هذه ستكون عن لقائه برئيس الوزراء الهندي الأسبق (جواهر لال نهرو)، إذ وفي معرض حديثهما، قال نهرو لهيكل  ما معناه، إنني أجد أمامي (360) مليون مشكلة، ويقصد عدد أفراد الشعب الهندي في وقته، أما في الوقت الحاضر فيتجاوز تعداد الشعب الهندي المليار وربع المليون نسمة. ماذا يعني ذلك؟ الجواب أن كل همه كان الإنسان الهندي، وكيف يمكن له أن ينتشله من الضياع والفقر والحرمان؟ وها هي اليوم الهند من بين أكبر عشرة اقتصاديات عالمية، ودولة نووية، لها وزنها على الساحة الدولية، والإقليمية. بينما الإنسان العربي يعيش أصعب فتراته، فهو مهان في بلاده، تتقاذف الدول الأخرى مصائره يمينًا، وشمالًا، والنظم العربية لا يهمها إلا كروشها، وعروشها.

 ومن ثم يحتاج الأمر إلى إصلاح جامعة الدول العربية، التي باتت خاويةً على عروشها لا تجيد غير لغة الخطابات الرنانة، والجوفاء، منعدمة القيمة، والأثر، وسبب تعطلها يرجع بالأساس إلى أنها قامت على أساس سياسي، أو آيديولوجي، لا اقتصادي. المثير للاستغراب أنها أُسست في عام (1945) أي قبل أن تفكر دول أوروبا بالوحدة الأوروبية، لكن أين أوروبا اليوم، وأين هي جامعتنا العربية! هذا يرجع إلى صحة التدبير، وطول الآناة، والتخطيط، والبعد الإستراتيجي. أما العرب فهم ظاهرة صوتية على حد تعبير (عبد الله القصيمي)، فهل هذا الحكم عادل، أم ظالم؟ إلى حد ما وبحكم الشواهد فهو صحيح، ونرجو أن تدحض الشعوب، والنخب العربية هذا الحكم مستقبلًا عبر العمل الجاد، والدؤوب، والنظر للبعيد، لا أن يقتصر نظرهم على ما تحت أقدامهم.

 عربيًا، لدينا العديد من الحفر المقدسة، فلكل جماعة حفرتها المقدسة التي باتت في ذات الوقت قبرها الذي لا تستطيع التخلص منه

وأعتقد جازمًا سأجد من سيقول إن هذا الكلام محض أحلام وردية، أو طوباوية، وحجته في ذلك الواقع العربي المتأزم. إلا أنني أستطيع الرد على ذلك بأن فكرة السلام الأوروبي، أو الوحدة الأوروبية، أو السلام الديمقراطي، والمنظمات الدولية، طُرحت من قبل الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) في القرن الثامن عشر، بينما لم تجد طريقها إلا عند حلول القرن العشرين، عبر قيام عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، لتقوم على أنقاضها بعد الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة، وكذلك شروع الدول الأوروبية ببناء طريق وحدتها. وهذه مسألة طبيعية في عالم الفكر، فالفكرة الجديدة تحتاج وقت حتى تجد الأرضية المناسبة لنجاحها، ربما يطول أو يقصر، يتوقف ذلك على مدى استيعاب الشعوب لها. وكانت المآسي التي أحلت بالدول الأوروبية بسبب كارثة الحرب العالمية الثانية، سببًا رئيسًا في إدراك شعوب أوروبا أن الحل الأمثل هو في وحدتهم لا فرقتهم، أو تنافسهم، التي لم يجنو منها غير الحروب، والكوراث، وسيل جارف من الدماء البشرية، والخسائر المادية الكبيرة، بالتالي يمكن أن تكون الآلام طريقًا للحل، أي يمكن أن تكون المحنة منحة!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السلطة والنخبة.. علاقة متبادلة لا تنفصم

هل يمكن بناء دولة في ظل ذاكرة تكره الديمقراطية؟