26-يناير-2023
اقتصاد العراق

حرب بين القطاع الخاص والدولة؟ (Getty)

كثيرًا ما كان يُؤخذ على الحكومات العراقيّة ما بعد 2003 من قبل الأوساط الشعبيّة، عدم إيلاء ما يلزم من المبادرة الرسمية في استثمار الأموال أو الجهود أو الخبرات من أجل تيسير المشاريع المختلفة في عدد من القطاعات، مع ترك جميع أنواع المشاريع والمعاملات التجارية إلى القطاع الخاص والشركات الاستثماريّة.

توجهت وزارة التجارة العراقية لاستيراد مختلف أنواع البضائع والسلع وبيعها للمواطنين عبر مراكز بيع مباشر

ولعلّ أبرز مثال شُخّص من قبل عديدين، ترك الحكومة العراقيّة لمنتج التمور التي يمتلك العراق منها أصنافًا متنوعة ومرغوبة خارجيًا، تحت رحمة تجّار لا يهتمون بمسألة التعليب الجيد ولا الصناعات التحويلية، ويقومون بشراء المنتج من الفلاح العراقي، ومن ثم يصدرونه إلى دول أخرى بطرق تخزين طالما اكتسبت سمعة "سيئة"، لتقوم هذه الدول بتعبئة وتغليف تلك التمور العراقية وبيعها بالتجزئة لتحقيق أرباح هائلة. هنا تكتفي وزارة الزراعة برماقبة هذه العملية من بعيد، دون أن تكون طرفًا فيها، بدلًا من استثمار التمور وتصديرها معبئة وبالتجزئة لتكون الأرباح والإيرادات لحساب خزينة الدولة.

وفي حين كان هذا التوجه منسجمًا مع نظام ما بعد 2003، حيث نظام السوق المفتوح والحر والخصخصة وعدم تدخل الدولة إلا بجزء يسير من القضايا التجارية والاقتصادية بشكل عام، إلا أن مؤشرات جديدة تم رصدها في حكومة محمد شياع السوداني، قد تجد قبولًا جزئيًا، رغم أنها قد تكون "ممارسات خاطئة" في نظر المختصين.

هذه المؤشرات التي ربما من الممكن وصفها بأنها "تأميم" من نوع آخر، لا تقتضي احتكار الدولة للعملية التجاريّة في البلاد، بل الدخول كمنافس قوي للسوق. حصل ذلك مثلًا عن أقدمت وزارة الاتصالات على طرح "الإنترنت المدعوم"، والذي قد يضرب واحدة من أهم الجوانب التي تستغلها الشركات ووكلاء الإنترنت، والتي تتمثل باقتطاع أسعار محددة ثابتة لاشتراكات الإنترنت، أيًا كان حجم الاستخدام من قبل كل عائلة. أما مشروع  "الإنترنت المدعوم" وزارة الاتصالات، فسيبيع للمستخدم سعات محددة، تتناسب مع استهلاك واحتياجات كل منزل، بدلاً من الاشتراك الثابت بـ45 ألف دينار، بغض النظر عن حجم الاستفادة من الحزمة المحددة. 

وفي تعبير واضح عن مدى "المنافسة" التي تخوضها وزارة الاتصالات مع بعض الشركات الموفرة للإنترنت، تقول وزيرة الاتصالات هيام الياسري في تصريح، إنّ "نجاح خدمة الإنترنت المدعوم يتوقف على تعاون المواطنين في الإبلاغ عن حالات الاستغلال والمبالغة وإساءة الخدمة وعدم الاستماع لمن سيحاولون ثنيهم عن الاشتراك، لأنهم يقدمون لهم خدمة غير مستقرة وبباقات يحدث فيها مشاركة لعدة مستخدمين مع بطء في الخدمة".

أما المثال الآخر للمنافسة التي تقودها مؤسسات الدولة مع القطاع الخاص، فيتمثل في توجّه وزارة التجارة لاستيراد مختلف أنواع البضائع والسلع وبيعها للمواطنين عبر مراكز بيع مباشر، وبأسعار مدعومة، وهو توجّه جاء ردًا على ارتفاع أسعار السلع نتيجة لارتفاع أسعار الدولار في السوق، واستمرار التجار بشراء الدولار من السوق بدلًا من نافذة بيع العملة مما يتسبب برفع كلف المواد المستوردة.

ويصف المتحدث باسم وزارة التجارة محمد حنون، الزخم الحالي الحاصل من قبل المواطنين على شراء الطحين والبيض بأسعاره المدعومة، بأنه "متوقع"، وأنّ "تجربة البيع بأسعار مدعومة حديثة العهد وسنتلافى الإشكاليات الحاصلة حاليًا،عبر زيادة عدد المراكز التسويقية ببغداد والمحافظات، وكذلك الاستعانة بوكلاء الحصة التموينية. كما تخطط الوزارة إلى زيادة المواد المدعومة من صنفين حاليًا إلى 10، فضلًا عن توفير المواد الإنشائية بأسعار مدعومة أيضًا".

يتّضح بذلك أن وزارة التجارة قد بدأت تفكر بـ"التجارة" والدخول في معتركها في قطاع المواد الإنشائية أيضًا، بعد أن كان دورها يقتصر على توزيع الحصة التموينية فقط، وهو توجّه يقود في المقابل إلى التساؤل عن مصير القطاع الخاص الذي قد لا يستطيع منافسة الدولة التي تمتلك الدولار بوفرة، فضلًا عن إمكانية إدخالها البضائع دون ضرائب أو رسوم، ودون استهداف هامش ربح كبير من المواطنين، وهو تباينات من شأنها أن تجعل القطاع الخاص غير قادر على مجاراة المنافسة الحكومية والتعرض لخسائر كبيرة.

قال الباحث الاقتصادي نبيل التميمي إن تحركات السوداني تنسجم مع الاعتقاد بـ"مركزية الدولة" 

وإزاء هذا التحوّل انفتحت شهيّة بعض الأطراف النيابية التي وجدت أن توجه مؤسسات الدولة للمتاجرة، والقيام بدور التجّار وشركات القطاع الخاص، ليس حلًا لأزمة الدولار وتوفير البضائع بأسعار جيدة للمواطنين فحسب، بل خيارًا للقضاء على مشاكل أخرى في العملية التجارية بالعراق، من قبيل تهريب البضائع عبر منافذ غير رسميّة، وتهرّب التجار من دفع الضرائب، وغيرها. 

تحركات لها ما يبررها

لكن الأمر لا يراه المختصون على هذا النحو المتفائل، بل يصفون الخطوات الحكومية هذه بأنها نابعة من "عقليّة اشتراكيّة"، رغم أنها قد تكون مبررة، بالنظر إلى عدم وجود خطّ اقتصادي واضح للدولة والنظام، واختلاف كل حكومة جديدة عن التي تسبقها. 

ويعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي والسياسي نبيل التميمي، أنّ "الخطوات الواسعة التي تحاول المؤسسات الحكومية اتخاذها اليوم في قضايا توسيع أنشطتها التجارية المباشرة قد ترتبط بشكل مباشر بطريقه تفكير المسؤولين العراقيين وتعاطيهم مع الاقتصاد، مستدركًا "ولكنها بنفس الوقت قد تكون مبررة في بعض القطاعات ولا سيما التي تحتكرها شركات معينة توجب على الدولة التحرك بهذا الاتجاه".

ويضيف التميمي في حديث لـ"ألترا عراق"، أنّ "الحكومة الحالية ورئيسها السوداني وبالرغم من آرائه التي قد تبدو أنها مع السوق الحر، إلا أنّ تحركاته تنسجم مع الاعتقاد بمركزيّة الدولة ووجوب أن يكون لها الدور الأكبر في مختلف القضايا والقطاعات".

وبينما يؤكد التميمي أنّ هذه التوجهات مخالفة لما بُني عليه النظام الحالي بتبني منهجية السوق الحر، إلا أنّ "غياب رؤى اقتصاد الدولة وتباينها بين حكومة وأخرى هو ما أربك المشهد وجعل الخطوات المتخذة أخيرًا في بعض الأحيان كضرورة واجبة، لغياب البديل الواضح".

وحول مدى تأثر القطاع الخاص بالمزاحمة التي تقودها مؤسسات الدولة، يرى التميمي أنّ "تحركات الدولة ستحجم من دور القطاع الخاص ربما، وتقلل من نشاطه، ولكن لن تكون منافسة له إطلاقًا"، مبينًا أنّ "الخدمات الحكومية هي خدمات مكلفة دائمًا".

ماذا تقول التجارة؟

من جانبه، يقول المتحدث باسم وزارة التجارة محمد حنون في حديث لـ"ألترا عراق"، إنّ "وزارة التجارة اليوم متوجهة إلى استراتيجية جديدة وغير مسبوقة بعد تعطل شركاتها العامة طوال السنوات الماضية وعدم امتلاكها الامتيازات التي يتحصل عليها القطاع الخاص"، مشيرًا إلى أنّ "الخطوة الأولى للوزارة اعتمدت على المنتجات الوطنية مثل بيض المائدة، ومن ثم استيراد باقي السلع عبر تجّار أيضًا ولا تستهدف وزارة التجارة القطاع الخاص".

وأشار حنون إلى أنّ "الوزارة بدأت تستقطب تعاونًا من قبل القطاع الخاص للدخول بهذه العملية والتعاون التكاملي بين الطرفين"، معتبرًا أنّ "الوزارة قررت الدخول عندما وجدت أن الأمن الغذائي للمواطنين أصبح مستهدفًا".

وأكد أنّ "الوزارة متعاونة مع القطاع الخاص، والهدف الأساسي هو القطاع الخاص غير المتعاون أو الذي يجري عملياته التجاريّة خارج الضوابط، والذي لا يقوم على سبيل المثال بشراء العملة الصعبة وتمويل استيراداته من البنك المركزي بشكل رسمي ويذهب للشراء من السوق الموازي ويعمل على التهرب من الضرائب".

ولفت إلى أنّ "الوزارة ماضيّة في هذا التوجه بعد سنوات من تعطّل الشركات العامة التابعة للدولة، وحتى استقرار السوق، وقد يستمر ليصبح هذا التوجه مصدرًا لتوفير الموارد المالية للوزارة والدولة والتحول إلى شركات رابحة".