ليس جديدًا أن يستشهد جنود وضباط عراقيون على يد قوات خارجة عن النظام أو أجنبية أو جماعات إرهابية. إنه الحال الذي تربينا ومن سبقنا عليه. ورغم استقبال أخبار قتل منتسبين عسكريين ـ هنا ـ بشيء من البرود مقارنةً بدول أخرى تهتز إذا ما سقط قائد عسكري لها؛ إلا أن الحدث يبقى كبيرًا على عدة مستويات أهمها، وبالذات، ما تمثله الجيوش من رمز لسيادة الدولة وأمن المواطنين وكرامتهم بغض النظر عن الشوائب في تاريخ تلك الجيوش بالمنطقة العربية، وبغض النظر عن الجهة الفاعلة. العبارة الأولى واقعية ـ على المستوى العراقي ـ إذا ما تابعنا تفاعل الناس مع القوات الأمنية خاصةً أثناء وبعد حرب تحرير المدن من داعش.
أما العبارة الثانية ـ أي ما يتعلق بالجهة الفاعلة ـ فيبدو أنها منطقية نظريًا، لكنها على المستوى العملي لا تأخذ ما يتمثل لنا في الذهن تمامًا. يرتبط مقتل الجنود والضباط بهوية قاتلهم إلى حدٍ كبير. لكن ليس هنا فحسب، فبالتأكيد يتناسب الحادث مع حالة الدولة/المجتمع مع الجهة الفاعلة المتسببة بالحادث؛ العداء من عدمه، وحجم الحادث، وتوقيته، والطريقة التي تتم فيه.
لا يفهم نظام الطوائف السعيدة أن خرق السيادة من قبل دول الجوار وغير الجوار حين يتوازى مع مواصلة الإدانات سيؤدي إلى انتهاك أخطر
في العراق، تأخذ الاعتبارات الأخرى الجانبية للحادث بُعدًا أكثر تطرفًا وهزلية في نفس الوقت. كما هي المحاصصة التي تقسّم ثروات البلاد والمجتمع، تتقسم ردود الفعل السياسية والاجتماعية بحسب المستهدَف والمستهدِف، وبحسب من هو في مركز القرار الذي يتحمل مسؤولية التعامل مع الحادث.
اقرأ/ي أيضًا: مذكرة "شديدة اللهجة" إلى أنقرة: إلغاء زيارة وزير تركي واستدعاء السفير
تتكرر الاعتداءات السافرة وتقابلها القوى السياسية بالطريقة المكررة التي أشرنا لها، يتبعها استنكار متكرر من السلطات العراقية. والمضحك المبكي أن وزارة الخارجية ذاتها تصف الاعتداءات بـ"الأفعال المتكررة"؛ لكن رد الفعل لا يتجاوز دائمًا استدعاء السفير وتسليمه مذكرات احتجاج وتقديم شكاوى لمجلس الأمن، لتعود الانتهاكات وتعود معها الاستنكارات التي بات المعتدون يسخرون منها، وأي إهانة وتحدٍ أكبر؟
لا أفهم أيةُ لغة مخاطبة يُمكن لها أن تحث المسؤولين العراقيين على فعل شيء غير الاستدعاء والاحتجاج والاستنكار بدل اتخاذ الخطوات الجدية على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي في أنعم الحالات.
لا يفهم نظام الطوائف السعيدة أن خرق السيادة من قبل دول الجوار وغير الجوار حين يتوازى مع مواصلة الإدانات سيؤدي إلى انتهاك أخطر كما حصل في الأيام السابقة حين استهدفُ قادةٌ في قوات حرس الحدود بغارةٍ جوية تركية، متجاهلة الدعوات البروتوكولية لمجلس الأمن والدول الغربية الكبيرة، والدعوات العربية الانتهازية التي تُحاسب انتهاك السيادة وفق أجندتها فضلًا عن اختراقها هي لسيادة جيرانها وأشقائها العرب.
أما لناحية القوى السياسية الانتهازية الطائفية، الآن، فهي تُحاول استثمار كل حادث من شأنه زعزعة الثقة بالحكومة الجديدة، وللدعاية الانتخابية. وهي في الوقت ذاته ـ من جهة طائفية معينة ـ لم تكتفِ بالضجيج حين اغتيل سليماني والمهندس، وسارعت لعقد جلسة برلمانية عاجلة وألزمت الحكومة بقرار إخراج القوات الأجنبية (أي الأميركية). فارق الأفعال عن الأقوال هو نوع المُستهدِف مرةً أخرى، الذي يتوافق عمليًا مع هوية المستهدَف الفرعية: إننا سنلتزم الصمت اتجاه الانتهاكات الإيرانية. سنقول ونجعجع ضد الانتهاكات التركية. وسنفعل ونصدر القرارات ونرد عسكريًا ضد الانتهاكات الأميركية. وعلى الجانب الطائفي الآخر، غير القادر على الفعل، فهو يُبادل بحدّة الأقوال والجعجعة بحسب الجهة التي تنتهك السيادة.
تعلم القوى السياسية شبكة الارتباطات والتفاهمات الخارجية حيال العراق في حالة التحالف والتخالف، ومن هذا الفهم لا تتعامل مع القضايا التي تنتهك السيادة وفق الاعتبارات الوطنية التي يفترض أن تتصدر المواقف حالما يطال الخطر الخارجي البيت الداخلي. بل تقسّمها إلى انتهاكات مقبولة، ومرفوضة، ومرفوضة جدًا، ليس بحسب حجمها ونوعها، بل باتجاه انطلاقها ووقوعها.
تدعو قوى سياسية إلى اللجوء لمجلس الأمن الدولي لحل المشكلات بين العراق وتركيا؛ لكنها تسهّل، تؤيد، أو تصمت على أقل تقدير، بخصوص حل المشكلات السيادية مع الولايات المتحدة عبر صواريخ الكاتيوشا والعبوات الناسفة اللواتي يستهدفن سفارة مدنية وقوافل ومعسكرات للتحالف الدولي.
لعل القوى السياسية في العراق لا تعلم أن السيادةَ في أعراف العالم تتعرض للتآكل كأثاث المنزل بـ"الأرضة" التي ستصل أسرّتهم مع تقادم الزمن
تتلخص ردود فعل السلطات العراقية في كل مرةٍ تتعرض سيادة البلاد للخرق بمسارين: غياب البوصلة الواضحة للقوى السياسية المنقسمة بين الدول والتي تتقاسم السلطات والمواقع طائفيًا، ووصف الانتهاكات بأنها انتهاكات، مع تعزيز الحديث بالمصادر: وفق الأعراف الدولية، اتفاقية جنيف، الأمم المتحدة.. إلخ، على طريقة الخبراء القانونيين الذين تستضيفهم القنوات الفضائية.
لعلهم لا يعلمون أن السيادةَ في أعراف العالم تتعرض للتآكل كأثاث المنزل بـ"الأرضة" التي ستصل أسرّتهم مع تقادم الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: