لا بد أن أحدًا قد افترى على يوزف ك، إذ اعتقل ذات صباح دون أن يكون من شأنه قد فعل شرًّا. فرانز كافكا ـ رواية المحاكمة.
كالعادة، ينهض العراقيون من نومهم ويجدون أمامهم محاكمات ومقاصل رمزية، دون أن يعلموا ما هو وجه التهمة، ولماذا هذا الاستعجال بنصب المقاصل؛ فعلى الأقل "يتروّى القضاة" قبل حكمهم الأخير. غير أن العراقيين يكتشفون أن هذه المحاكم تتخذ صفة "السرمدية"، أي لا بداية ولا نهاية لها. لكن سرعان ما انطلت اللعبة على الشعب العراقي بفعل التلقين، فهنالك قطاعات اجتماعية ليست بالقليلة، تسللت في أعماقها عقدة الذنب، حتى أن الكثير منهم، أسمعهم بأذني، يتمنون الموت الوشيك للشعب العراقي، والتهمة الحاضرة هي "نحن السبب"! من افترى على هذا الشعب المحتار، لدرجة أن الشعور بالذنب أضحى خبزه اليومي؟
لا يكاشفك بعض المثقفين بصوت مسموع، بل اعتاد بعضهم أن يهمس لك همسًا أن هذا الشعب ميؤوس منه
ليس المهم قسوة التاريخ السياسي، ليس المهم أن هذا البلد لم يشهد استقرارًا سياسيًا طيلة قرن، ليس المهم أن الدكتاتوريات المتعاقبة ذبحته من الوريد إلى الوريد. ليس المهم أن القوى العظمى قتلته بدم بارد عبر دعم الدكتاتور، ومن ثم تطويقه بحصار لا أخلاقي مزق نسيجه الاجتماعي. المهم في هذا كله، وبطريقة إيثارية عجيبة، يصرخ بعض العراقيين "نحن السبب"! لقد اعتدنا هواية التقشير، وعزل الأحداث عن مسبباتها الرمزية، ووصلنا لدرجة الافتنان بمنطق التحليل المقلوب؛ عزل المقدمات عن نتائجها، فما يهم هو النتيجة، لأنها تمنحنا وجبة سريعة، وهي وجبة الأحكام القطعية والمسلفنة. ما إن تضغط على الزر حتى يمطرك "القضاة" بحزمة من الأحكام المتحذلقة.
اقرأ/ي أيضًا: نقد المجتمع ليس حقك أيها السياسي الفاشل!
لا يكاشفك بعض المثقفين بصوت مسموع، بل اعتاد بعضهم أن يهمس لك همسًا أن هذا الشعب ميؤوس منه. ربما لأن بعض المثقفين لا يحظى بالشعبية الكافية أو الإصغاء الكافي لمجاميعه الشعرية، فالمثقف من جيل الحاضر، يقول هادي العلوي، لا يستطيع تناول غذائه أو عشاءه إلا على أنغام مبهمة أو صائتة. ولا يسعه النوم أو القراءة إلا وقنينة ويسكي بجانبه مع علبة مارلبورو. أفهم جيدًا حجم التحديات والمخاطر التي يكابدها بعض المثقفين النزيهين، ومن العبث وضعهم جميعًا في سلّة واحدة، لكن لا أفهم تلك الإهانة المجانية من بعض الذوات "النبوية" التي تبيح لنفسها كل هذه السخافات والتخيلات لشعب لا وجود له سوى في أذهانهم.
أخبرني أحد الأصدقاء أن شاعر الهند الكبير(طاغور) تمنّى ذات يوم أن ترسل الآلهة نيرانها فتحرق الشعب الهندي عن بكرة أبيه. ولنا أن نتلمّس حجم الإحباط ومشاعر الأسى التي كانت تهمين على ذهنية هذا الشاعر الكبير. ومعلوم أن النخبة المثقفة حينما تخرج من صلب المجتمع وتتعايش مع التفاصيل اليومية التي يكابدها شعبها، فحينئذٍ سيغدو الخطاب العام ترديدًا لصوت النخبة بشكل عام. معنى هذا أن الشعب الهندي كان يشاطر شاعره الكبير هذا اليأس! لكن، على أي حال، لم تتوقف الهند على طاغور، ومن حسن حظهم أن الآلهة لم تستجب لدعاء الشاعر، وإنما استجابت لروح فيّاضة بالخير، وأعني بها روح الحكيم والمناضل الهندي المهاتما غاندي.
هذه نكتة ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا؛ فالنخب التي تحترف الشتيمة وتخترع شتّى صنوف التحقير والهجاء لشعبها لا يمكنها أن تؤثر بالآخرين فضلًا عن نفسها، ما عدا المنافع الشخصية الضيقة. فمن هنا كانت الخلاصة الوافية لخطاب ماو تسي تونغ للنخبة الثقافية الصينية في ذلك الحين: طالما تتخذون من الشعب مادة غنية للشتائم والتهكم والتحقير، فلا تتوقعوا استجابة منه، فمن يريد التغيير يقترب من الشعب وهمومه، ويحتاج إلى كل الطاقات، وأنتم ببساطة شديدة، لن تحدثوا أي تغيير يُذكر ما دمتم تحترفون هذا الخطاب البائس. إن بعض المحسوبين على النخب، سامحنا الله وأيّاهم، يبحثون عن شعب خارج أفق الأحداث الواقعية؛ يبحثون عن "أصل" عابر للتجربة التاريخية، بعبارة أدق، شعب "ميتافيزيقي"، يعشعش في أذهانهم ولا تطاله أحداث التاريخ.
طبعًا، لا أعني هنا تفعيل دائرة الرجاء، وينتابني الأمل في يوم ما، أن يكون للنخب الثقافية دور ملموس في إحداث التغيير(اللهم إنّي أعوذ بك من الأماني الزائفة!) لكن ما اتمناه أن يرحّلوا هذا الخطاب حتى إشعار آخر. إن آخر ما ينقص العراقيين هو التشكيك في قدراتهم، ويتخيلون كما لو أنهم في مصحة نفسية كبيرة. المشكلة ليست بالدراسات الأكاديمية، فالبحوث التي تتناول البنية الثقافية العراقية، لم يكتبها أصحابها كمقدمة للكرنفالات المجانية لجلد الذات، وإنما لتشخيص الأعطاب والاختلالات الوظيفية التي تصيب ثقافة ما كأي جسم يشكو من خلل وظيفي، فيأتي الباحث ليضع الحلول لتلافيها، ويكون على النخب السياسية المتنفذة وضع السياسات اللازمة لتجاوز هذه الاختلالات.
معظم الذين يتمسكون بأحكامهم القطعية تجاه الشعب العراقي يتعكزّون على أحداث تاريخية وروايات تذم العراقيين، كما لو أن البنية الاجتماعية والحدود الجغرافية هي ذاتها
إذا كنّا نؤمن بالطبائع الثابتة، باعتبارها بنية عميقة وغائرة في الجسد الاجتماعي، فينبغي علينا أن نعتبر الشعوب التي كابدت المحن والعذابات حتى وصلت إلى مصاف الشعوب المتقدمة، شعوبًا خيالية ولا وجود لها. بمعنى، سنكذب هذه الوقائع التاريخية ونصدق دعاة العدمية. لا نصدقهم فحسب، بل نتغذّى على إسقاطاتهم وأحكامهم القطعية المشينة، من أن الشعب العراقي ذو طبائع ثابتة لم ولن يتغيّر! هل ثمّة عصاب أخطر من هذا؟! غير أن الحقيقة بأبسط تجلياتها تكون بهذه الطريقة: مزيد من التعليم والتدريب، أي التنشئة الاجتماعية المتواصلة، كفيلة بأن تغيّر شعبًا ما نحو الأحسن. مزيد من الاستقرار السياسي والاقتصادي كفيل بأن يغير الواقع الاجتماعي. لكن ماذا نفعل لعشّاق الجبرية، الذين يتناسلون في مواقع التواصل الاجتماعي، ويرددون ذات الاتهامات عبر النسخ واللصق؟
اقرأ/ي أيضًا: المجتمع هو السبب.. النقد لإنقاذ فشل السلطة!
معظم الأخوة الذين يتمسكون بأحكامهم القطعية تجاه الشعب العراقي يتعكزّون على أحداث تاريخية وروايات تذم العراقيين، كما لو أن البنية الاجتماعية والحدود الجغرافية هي ذاتها. فضلًا عن المضحك بالموضوع، وهو التعامل مع هذه الأحداث التاريخية كعصيدة متعددة المكونات، ولا يأخذون بالحسبان دسائس السلطة السياسية، والشائعات المزيفة لمثل هذه الأقاويل على شعب يخبرنا تاريخه بأنه تاريخ التمرّد على السلطة الغاشمة. المضحك بالأمر، إن هذه الحكايات الطريفة يروّج لها الملحد قبل المؤمن، ذلك الملحد الذي لا يقيم وزنًا للرواية التاريخية، لكن لو تعلق الأمر بجلد الذات، سيتطاول عنقه على العرب والعجم، وسيكون سبَاقًا للهذيان بهذه الحكايات.. هل نسيتم أن أحداث التاريخ تخضع لمنطق الصيرورة؟! ألم نقل أنكم تبحثون عن شعب ميتافيزيقي خارج أحداث التاريخ؟ استنادًا لمنطق هذه الجماعات المتسرع، فإن التاريخ يغدو كتلة صمّاء راكدة لا تتزحزح من مكانها، وعلى التاريخ أن يلوي عنقه من أجلهم.
لقد تطاحن الأوربيون قديمًا فيما بينهم وافترس بعضهم بعضًا كما الضواري الجائعة، وأعادوا الكرّة من جديد، إذ لم يشفع لهم تاريخهم الحديث المشبع بالعقلانية، وقيم الديمقراطية والليبرالية؛ فرجعوا إلى منطق الافتراس مرّة أخرى بحربين عالميتين، وتقاتلوا بأحدث الأسلحة التي اخترعها العقل الحديث، وذهب الملايين ضحية أيديولوجيات متطاحنة، غير أن "الليفياثان" الدولة، استطاع أن يؤمّن لهذا الخراب وسائل إكراه تحد من أنانية الإنسان. لكن، وهنا محل الشاهد، هل يعني هذا أن "الطبيعة البشرية" دخلت في مدار العصمة والوقاية من اختلالات النفس البشرية؟ كل ما هنالك، أن الدولة ومؤسساتها القضائية وقطاعاتها الخدمية الواسعة، ومؤسساتها التعليمية وفرّت بيئة خصبة ليعثر الإنسان على أفضل ما فيه. ولمجرد أن تغيب الدولة فستظهر الوحوش البشرية على حقيقتها. فهل علينا، مرة أخرى، أن نصدق "قضاتنا" ونكذّب الحقاق التاريخية؟ الأجوبة النظرية، والشواهد التاريخية قد تعزز فضيلة التفكير العقلاني، لكنها لا تكفي لتعزيز الثقة في شعب تعايش مع عقدة الذنب عقودًا طويلة، ومع جماعات مأزومة تبرهن فشلها في كل لحظة، ولا تحترف شيئًا سوى لعبة المحاكمات والإعدامات الرمزية، وتنصب العداء للتفكير العقلاني، وتمارس لعبة الاستثناء، وتسلّط وساوسها المريضة على شعب محتار يشعر بالذنب على جرم لم يقترفه.
اقرأ/ي أيضًا: