21-أغسطس-2019

لا زال بعض الشيعة يتصرفون كأقلية في العراق (AFP/Getty)

تتميز الحياة الدينية للطوائف والأقليات عمومًا بكثافة الشعائر والشعارات والرموز، ومن يقرأ عن الحياة الدينية وممارستها يتضح له حضورها وتمَيزها. والمقصود بحضورها ذكر النماذج والرموز الدينية واجتياحها قواعد التفاعل اليومي بين المؤمنين، والرجوع إلى مصادر دينية وتاريخية، والاستعانة بها لتأكيد صحة وسلامة المواقف والمسلكيات، كالقسَم والشهادة، والزيارات الفردية والجماعية لأضرحة الأئمة، وشيوخ الدين الصالحين، والسرد المتكرر والمتواصل لأعمال هؤلاء الرموز وأقوالهم وسيرتهم. تحيط هذه الأمور مجتمعة بالإنسان من كل جوانب تفاعله اليومي مع الآخرين، فيشعر وكأنه في عالم ديني خاص قائم بذاته ومميز عن المجتمعات الدينية الأخرى. ويتزايد هذا الشعور حالما يبدأ الإنسان بالتفاعل مع الآخرين ممن لا ينتمون لمجموعته الدينية.

لعل الشيعة من أبرز الجماعات التي تستثمر تجمعاتها بإحياء الهوية الشيعية وإعادة ربط الأواصر الوشائجية بين مختلف فئات الطائفة 

تمر في هذه الفترة ذكرى عيد الغدير، العيد المميّز عند الشيعة. وبعد فترة ستأتي ذكرى عاشوراء الأكثر تميزًا لديهم، ولا تكاد الاحتفالات تنتهي من كل مكان في المناطق الشيعية من الآن حتى العشرين من شهر صفر، أي ما يقارب 50 يومًا كاملة. ولعل الشيعة من أبرز الجماعات التي تستثمر تجمعاتها بأحياء الهوية الشيعية وإعادة ربط الأواصر الوشائجية بين مختلف فئات الطائفة عبر عرض دعوى كبيرة بالمظلومية والاضطهاد، وهذا ينعكس في الخارج على شكل شعور طافح بالقهر والحرمان. هذه العملية تحدث عند أغلب الأقليات الهوياتية، وليست حصرًا عند الشيعة، فهي جزء من عملية إسقاط لا شعورية يتهرب فيها العقل الأقلوي من المسؤولية بحيث يطرد عنه مشاعر الذنب التي لا يرغب فيها ويلصقها بـ"الغير"، كنوع من تبرئة الذات أو الدفاع السلبي عنها. وبهذا، أنه لا يرى أن "الضحية" هي "الكل" المجتمعي وليس جماعة بعينها، وأن المظلومية واقعة على كل المكونات والجماعات، فالنظام السلطوي والاستبدادي يساوي في الظلم بين رعاياه، ويكافئ أو يعاقب على أساس الطاعة والولاء.

اقرأ/ي أيضًا: هل يملك الضعفاء ترف الاختيار؟

يمكن استغلال هذا المخيال الذي يتشكل تاريخيًا في الذاكرة الجماعية، أو في الذهن استغلالًا سياسيًا وأيديولوجيًا في اللحظات التاريخية العصيبة. فهو يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي عبر تشكله خلال مختلف المراحل التاريخية العصيبة. هكذا نتحدث مثلًا عن مخيال إسلامي ضد الغرب أو مخيال غربي ضد الإسلام. في كتابه "أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟" يعرّف المفكر العربي محمد أركون المخيال على أنه "عبارة عن شبكة من الصور التي تستثار في أي لحظة بشكل غير واعي، وكنوع من رد الفعل. بل ويوجد مخيال كاثوليكي ضد البروتستانت أو بروتستانتي ضد الكاثوليك، أو شيعي ضد السنّة أو سنّي ضد الشيعة، الخ... كل فئة تشكل صورة محددة عن الفئة الأخرى، وترسخ هذه الصورة بمرور الزمن في الوعي الجمعي".

إن الإنسان لا تحرّكه فقط الحوافز المادية والاقتصادية، وإنما تسيّره أيضًا الصور الخيالية والأحلام الوردية. وغالبًا ما يتم تحريك الجماهير وإثارتها لمجرد أن شخصًا عرف كيف يضرب على وتر المخيال الجماعي، أو عرف كيف يحرك النوابض الأساسية لهذا المخيال. والمخيال الشيعي الذي حرّكه الخميني من هذا النوع. هكذا وجب ـ حسب أركون ـ القيام بعمل تفكيكي للمخيال الجماعي الذي يتم استغلاله في تجييش الجماهير لمعرفة كيف نشأ هذا المتخيل لأول مرّة، وكيف تحول مع التاريخ.

السرديات التاريخية، والمرويات، والحكايا، والقصص، ليست تجميعًا أو تكرارًا لمواد قديمة منتشرة فحسب، بل هي ميدان فسيح وحركة دينامية للمخيّلة الخلّاقة، ولذلك هي جاذبة ومؤثرة في الوعي الشعبي، وبخاصة في مجتمع يقوم على النقل الشفهي. لقد زوّد هذا المخيال الذي لا ينضب الفاعلين التقليديين "متصوفة، أولياء ورجال دين.. الخ"، وبخاصة الأقليات الأثنية والطائفية بذخيرة هائلة لبناء ذاكرة جمعية وتنظيم الشعائر وتعميم سلوكيات أخلاقية، بل وترسيخ الأعراف والشرائع. والأهم من كل ذلك، أنها دعمت التطييف ورسخته، من خلال مراقبة مؤسساتها الدينية والمذهبية لمنتجات هذا المخيال كي يبقى الانسجام بين التصورات المتخيلة مع المعقولات النظرية بما يخدم الهوية المفعّلة.

المشكلة أنه في المجتمعات التقليدية والتسلطية تعيش الأقليات، كما المجتمع كلّه في ظل شروط اجتماعية بائسة، لذلك تسود حالة هروب إلى التاريخ، إلى الهويات المترسبة -المترسبة هنا لا تعني الأثرية العتيقة لأنها لا تزال عنصرًا فاعلًا في الحاضر- لكنه في حالة الجماعات الأقلوية وعقلها الجمعي أولوية احتماء نكوصية، فيتعامل مع التاريخ وسردياته المترسبة انتقائيًا، ويختار منه مضخمًا ما يريحه من طريق إعادة رواية التاريخ وتقديمه بصورة تمجيدية تخدم أحياء "الهوية" من جديد والحفاظ على تماسكها. تتنكر هذه الرواية للحاضر الذي يشكل مرآة تعكس له مأساته، وهو يدافع عن نفسه إزاء كل ذلك بالهروب إلى الماضي المجيد ذاتيًا وقوميًا، فالماضي حصن لمن لا حاضر له. وهذا يفسح المجال بشكل فوق الطبيعي لبروز قادة شعبويين ومغامرين تنقاد لهم الجماعة بشكل رضوخي يكتسح العقل ويعطل الاختيار والنقد.

إن الإنسان لا تحرّكه فقط الحوافز المادية والاقتصادية، وإنما تسيّره أيضًا الصور الخيالية والأحلام الوردية

حقل المناسبات والاحتفالات والطقوس لا ينضب، وهو ينتعش في الأزمات والتحديات، مثل ما حصل بين الكرد السوريين الذين دفعهم النظام الاستبدادي الحاكم في سوريا لتأسيس هوامش هوياتية خاصة بهم، بل ويدفع نحو عسكرتها، بعد ما كان هذا النظام من أشد الباطشين بهم وبحقوقهم المدنية. ينسحب ذلك على باقي المكونات الأقلوية التي انتعش سوق الممارسات الشعبوية في صفوفها، فظهر بين المسيحيين والدروز من يعيد إنتاج الهويات الطائفية المسيّسة.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن حزب العمال الكردستاني؟.. 10 أسئلة تشرح لك

من هنا يمكن فهم التمسك الشديد بالتقاليد والعادات والخصوصيات الثقافية للجماعات، فهي آلية دفاعية فعّالة للحفاظ على تماسك الجماعة وترابطها في الأيام العادية، ولكنها تصل إلى ذروة وظيفتها الدفاعية بما تتضمنه من استلاب الفردانية بحيث تصبح مصدرًا للاعتبار الذاتي والقبول الاجتماعي في لحظات الشعور بالتهديد والخطر. ومن يتمرّد على الموروث في ظل التحديات يأخذ العدوان عليه طابع التشفي والبطش والتشهير، ويتحالف الكل للنيل منه، بهدف توكيد الانتماء للجماعة والتمسك بمعاييرها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انعدام الأمن الاجتماعي في العراق.. تفريخ الهويات!

ما هي أصنامنا الذهنية؟