06-سبتمبر-2022
فان غوخ

لوحة "نجوم فوق ضفَّة الرون"

في كتاب انطونان أرتو عن فان غوغ تكافح اللغة ضدّ نفسها، تريد أنْ تغدو شيئًا آخر غير الكلمات ومداليلها. هي أقرب للرسم منها إلى الكتابة، ليس لأنّ الكتاب كلّه عن رسامٍ هو أكثر رسامي العالم شهرة وعذابًا، بل هو "الرسام" بالألف واللام كما يشير أرتو مرات عدّة في كتابه، وإنما لأنّ أرتو أراده أن يكون بورتريه بضربات فرشاة سريعة ومتلاحقة لا تخفي أثر شُعيراتها على اللون الصريح والكثيف كما في لوحات غوغ.

أراد الروائي الإيرلندي الأشهر "جيمس جويس" من فرويد أن يعالجه من وسواس قهريّ كان يؤرقه، رفض فرويد ذلك محذرًا إياه من أن "العلاج النفسيّ قد يهدم عبقريتك"

لكنّ هذا البورتريه ليس لوجه غوغ تمامًا، إنه لوجهٍ منقسمٍ، يستعير جزءه الأكبر من ملامح غوغ لكنّ الجزء الآخر المنفعل الغاضب مردود إلى وجه أرتو صاحب "مسرح القسوة" الذي كان في شعره ومسرحه واندماجه مع السورياليين، لكنْ في تردّده الطويل على المصحات والعيادات النفسية من أكثر الناس معرفة بالقسوة، قسوة المجتمع المستعدّ دائمًا وأبدًا لتسويةِ بل لمحو التناقض والاختلاف في كل روحٍ عبقريّ. وما الذي سيتبقى من مبدع صُفّيتْ في ذاته مواردُ التنافر و"الجنون" وجُمعتْ على أمر سواء يرضاه المجتمع بمؤسساته الطبيّة والأخلاقية؟ فعل التصفية هذا؛ بابٌ مشرعة أمام العباقرة للانتحار.

قرأتُ مرة أن الروائي الإيرلندي الأشهر "جيمس جويس" أراد من فرويد أن يعالجه من وسواس قهريّ كان يؤرقه، رفض فرويد ذلك محذرًا إياه من أن "العلاج النفسيّ قد يهدم عبقريتك".

فان غوغ لم يحظ بمعالج نبيه كفرويد. بل هيأت له مقاديره السيئة طبيبًا يصفه أرتو بأنه كان يغار من عبقرية غوغ، قد يكون متعاطفًا معه إنسانًا لكنه كان يكرهه رسامًا، وكان لذلك يريد أن يقتل غوغ الرسام. يجد أرتو في هذا الطبيب علامة على تحالف المجتمع بكل مؤسساته ضدّ عبقريةٍ تزرع الخلخلة والارتباك في طيّاته.

الكتاب كلّه مرافعة غاضبة وحزينة لكنها عميقة ضدّ الآليات التي يدافع بها المجتمع عن مسلّماته أمام روح مختلفة. ذاك أن غوغ لم يكن مجنونًا إلا حين جرتْ مقايسته مع مجتمع مليء بالعلل والأوبئة، تمامًا كما أهينتْ لوحاته بمقايستها مع الطبيعة، وكما يزدري كلُّ ظاهرٍ شؤونَ الباطن ويعزوها إلى شذوذ أو جنون.

كتاب فان غوخ

ولذا فإنّ أرتو أنشأ في كتابه قنطرةً من كلماتٍ ترقى إلى الشعر لوصل الضفتين، في الضفة الأولى غوغ بعالمه الداخليّ وفي الأخرى العالم نفسه الذي فهمه غوغ جيدًا وعرفه وعبّر عنه لونيًا، لكنّ هذا العالم أصمّ ثقيل الفهم لم يحتمل ضيفًا على هذا القدر من الفرادة.

ينتصر أرتو لنفسه هنا بانتصاره لغوغ. يكتب "لفهم زهرة دوّار الشمس في الطبيعة لا بدّ الآن من العودة إلى فان غوغ، وكذلك لفهم إعصار في الطبيعة، سماء عاصفة، سهل في الطبيعة، لا يمكن بعد الآن إلا أن نعود إلى فان غوغ".

الترجمة الرائعة التي أنجزها الشاعر عيسى مخلوف قرّبتنا أكثر إلى فان غوغ وإلى أرتو أيضًا، ووضعتنا أمام لحظة مأسوية تكرّ على الدوام وتعيد نفسها. هي تلك اللحظة التي يحمل فيها المجتمع هراوته قائلاً للعبقريّ "والآن كفى! إلى القبر. لقد سئمنا نبوغك".

 

دلالات: