المثقف العربي الحديث والجديد محمول بمهمتين سلبيتين: هارب، بفعل الانهيار، من نفسه. وغارق، بفعل الهرب من النفس، في صراع غير مجدٍ مع ثقافة الغرب المتقدمة والنائية.. فوزي كريم
واحد من أشكال المعاناة التي لا تخفى على أحد هو الرغبة في شيء ليس في متناول اليد. الأمثلة الفردية على هذا النوع كثيرة. لكن بودي أن اختصر الموضوع هنا على ثقافتنا التقليدية المتأرجحة بين أجيال جديدة، مثقفين وغيرهم، توّاقة لعالم الحداثة وسحره البهيج، وبين سلطة اجتماعية وسياسية تستقتل بطريقة وبأخرى للتشبث بأساسات المجتمع التقليدي. هذا النزاع الضاري لم تُحسَم نتيجته بعد؛ حيث لا أدوات ملموسة يمكنها أن تساهم في حل النزاع، ولا صيغ تنظيمية سياسية يمكنها أن تحدث الفارق، ولا نخب سياسية تتمتع بالذكاء اللازم وتأخذ العبرة من ماضيها الأليم.
وقعنا بإغراء وحدة الزمن بيننا وبين الحضارة الغربية، بفعل الزمن الرقمي الذي اندمجت فيه الثقافات
كلا المعسكرين يتأرجحان بين هذا وذاك، مع الاعتراف بالفارق بينهما، فثمة فارق بين أجيال تحاول انتزاع حريتها، وبين سلطة تقليدية تجري بواسطتها - سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة - الحرب على الحرية بدعوى الحفاظ على التقاليد.
والذات، حينما تشعر بالانكسار، ليس لها من سبيل لترميم تصدعاتها إلا بأحلام اليقظة. إنها حالة من ترميم الذات وتعويض الاستلاب والنكسات التي منيت بها فتقفز إلى عالم الأحلام المنفصلة كليًا عن الواقع. لكنها قفزات تضاعف الألم ولا تخففه؛ إنها مسكنات وقتية لا تتمتع بقدرة شفائية مطلقة.
الإغراء الذي وقعنا فيه، وهو الإغراء الذي تصعُب مقاومته، هو وحدة الزمن بيننا وبين الحضارة الغربية. وإذا عُرِفَ السبب بطُل العجب من هذه الدعاوى الحالمة، وهي كالتالي: حقوق المرأة، الحريات الفردية، الدولة الحديثة ذات المؤسسات، أكاديميات متطورة. مثلما نرى هذه الأمنيات الحالمة تحاول صهر لحظتها بلحظة الغرب! ثمة زمن يوحي بالوحدة والتجانس بيننا وبين الحضارة الغربية، وهو الزمن الرقمي الذي اندمجت فيه الثقافات وأصبحت كما لو أنها قرية صغيرة.
يشاهد العراقيون الآن ما يحدث في واشنطن، ولندن، وطوكيو. إنهم يتفاعلون بنفس اللحظة مع ما يحدث في عواصم العالم المتقدم. لكنهم يفتقرون إلى البنى التحتية، والمؤسسات العظيمة، والنظام السياسي، والتعليمي، لهذه الدول الرائدة في التكنولوجيا الفائقة والنظم السياسية والاجتماعية المتطورة.
وحينما يضغط العراقيون على زر الإغلاق لحواسيبهم، تنتهي أحلام اليقظة ويرجع الزمن يتشظى مرة أخرى، وتظهر الهوّة السحيقة بين ما نرغب وبين ما عليه الواقع. السلطة السياسية والاجتماعية في عالم، والأجيال المتمردة على هذه السلطة في عالم آخر، وكلا الفريقين ليسا أفضل حالًا من الآخر. بمعنى، كلاهما تنخرهما الأحلام: الأول تنخره أحلام السلطة وأكذوبة الحفاظ على التقاليد، وهذه الأخيرة هي الغطاء المحبب للسلطة. أما الثاني فغارق في دوامة التقمص والمحاكات والآمال الكاذبة.
يشاهد العراقيون على حواسيبهم ما يحدث في الدول المتقدمة لكن واقعهم يشير إلى الافتقار للبنى التحتية والمؤسسات والنظام السياسي والتعليمي
المهم في الأمر، خلقت هذه الأحلام فجوة نفسية مؤلمة لدرجة أن الكثير من الناس اخترعوا تقنيات مؤقتة لتقمص أدوارًا خيالية، وهي طريقة للعيش في العالم الرقمي بشخصيات مُتتَخَيَّلَة ليس لها صلة بشخصياتنا الحقيقية بغية التنفيس عن كمية الأحلام المكبوتة.
لكي لا نتوقف كثيرًا عند هذه النقطة، فالقضية أوسع من العالم الرقمي، فثمة صيغ يقينية معبأة من الواقع الغربي يستخدمها الكثير من الحالمين، في حين نشهد واقعًا مغايرًا في ثقافتنا: تتحرك قوى الحياة وقوى المعرفة في اتجاه آخر، فتبدو الذات ممزقة وغارقة في مواضيع بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض.
والحقيقة التي نبّه لها الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم، أن ما يحدث هو ليس على نحو التعلم بقدر ما هو على نحو المجاراة. فيحدث ها هنا شرخ كبير: تأسيس ذاكرة معرفية لا ترتبط بواقعنا، لا توجد لها التحضيرات الكافية بحيث يمكننا التزود والتعلم من الحضارة الغربية العظيمة. هنالك فارق بين انتساب ذهني محض لحضارة ما، وتعلم حقيقي عبر بناء الأسس اللازمة للاندماج بهذه الحضارة. من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين يمكننا شق الطريق المناسب لكي لا يحدث التناشز بين الذات وموضوعاتها.
ما يحدث في ثقافتنا هو من هذا القبيل، أي اغتراب الذات عن موضوعاتها. فعلى سبيل المثال، وعلى حد تعبير فوزي كريم، ما هي الصلة الوثيقة بين ما بعد الحداثة وخراب البصرة؟! يمكن قياس الكثير من الإشكاليات من هذا السؤال الاستنكاري الذي طرحه الناقد العراقي. فعلى الأقل نحن نتعلم من شخص عاش في الغرب وفهم جيدًا معنى الاغتراب، وماذا تعني تصفية الحساب مع الواقع بطرق حالمة.