08-سبتمبر-2022
الدولة في العراق

معظم فعالياتنا السياسية قائمة على الارتجال (فيسبوك)

لا يوجد أي تنظيم سياسي في العراق يمتلك جهازًا إداريًا يمكنه إدارة مؤسسات الدولة. المشكلة تتعدى خصومة بين فريقين أو الإطاحة بهذا الفصيل السياسي أو ذاك. وعلى الرغم من جزع الناس من سياسيات الحكومات العراقية المتعاقبة، وعلى الرغم من ترحيب الناس بإزاحة الفاسدين.  لكن، وكما أزعم، ستبقى قضية تأهيل الكوادر والنخب الإدارية الكفوءة معضلة العراق إلى أجل غير مسمى. معجزة الحضارة الحديثة هي الدولة، أنا من أشد المتعصبين للدولة: سلطة قضائية محترفة وخبيرة يمكنها أن تحاسب الجميع، لا تتداخل مهامها مع باقي السلطات، سلطة تنفيذية كفوءة تضم خيرة العقول، سلطة تشريعية تسن قوانين لصالح المواطن لا أن تنشغل بمرتباتها الفلكية، نظام تعليمي حقيقي وليس مطابع للشهادات! مؤسسة أمنية وطنية قوية لا ميليشيات! نظام صحي يوفر كامل الخدمات الصحية لا أن يضطر احدنا للسفر لأبسط عملية جراحية، مستوى خدمات يليق بالبشر، وبنية تحتية تعكس حجم الثروات التي يتمتع بها البلد، نظام اقتصادي واضح الهوية.. الخ.  هل استطاع نظامنا السياسي البائس النظر إلى كل هذا بعين الجدية؟ كلا،  بل كان الغالب على القوم هو الصراع المحموم على السلطة. لذلك،  لا أثق بأي مشروع سياسي في العراق ما لم يحمل هذه الأمور أعلاه محمل الجد. وحتى هذه اللحظة لا يوجد هذا الكائن الذي لم يولد بعد

الاستبداد الاجتماعي أمضى وأشد من الاستبداد السياسي

أنا أجادل حول وجهة النظر هذه: إن معظم فعالياتنا السياسية قائمة على الارتجال وردود الأفعال. فسواء كنا إطاريين أم صدريين، أو سواء كنا جمهور ديني أم "علماني"، فالغالب على مجمل فعالياتنا الفكرية والسلوكية هو التكتيك والفعل وردة الفعل. لذا لا يمتلك كل من هؤلاء نظرية سياسية واضحة المعالم. نحن العراقيين، على وجه العموم، لم تترسخ لدينا تقاليد دولة، معظمنا يغرق في صراعات يغلب عليها الطابع السلطوي وإن اتخذت أشكال تعبيرية مختلفة. واقعنا الاجتماعي، وأعني به القبلي بالذات، تغلب عليه نزعة السلطوية. واقعنا السياسي تغلب عليه نزعة الاستحواذ على السلطة. أينما تضع أصبعك وعلى أي حراك سياسي، بشقيه الديني والدنيوي، ستجد ملامح الاستحواذ على السلطة. في نهاية المطاف نحن مجتمع يتوجس من الحرية ولا يقيم وزنًا للقانون، بقدر ما يقيم وزنًا لقوانين المذهب والعشيرة. ولا توجد قوة لحد الآن بإمكانها الوقوف ضد هذا الاستبداد المتفشي في المجتمع العراقي والذي يعطي مشروعية غير مباشرة للنظام السياسي الحالي خصوصًا، إذا تعلق الأمر بالخطوط الحمراء لهذا المجتمع التقليدي.

الاستبداد الاجتماعي أمضى وأشد من الاستبداد السياسي. بل هذا الأخير يستلهم مشروعيته من الأول. وإذا أجمعت سلطة المجتمع على ديانة شعبية لا أحد يجرؤ على الوقوف أمامها. حتى المؤسسة الدينية، على سبيل الفرض، لو أرادت الوقوف ضد الأساطير الاجتماعية المؤسسة لن تنجح في مساعيها. وحدها الدولة، هذه المعجزة الحديثة، بإمكانها الوقوف بوجه الفوضى. ومن هنا نفهم لماذا الفارق الواسع بين المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة، والمجتمعات الحديثة ذات البنية المدنية. فعادة ما تنتصر قيمنا الاجتماعية والسياسية للأولى وتحارب الثانية، وتطفو على السطح صراعات ذات نزوع سلطوي لا علاقة لها بالعمل المؤسسي المنظم.

نتأثر كثيرًا بتجارب الشعوب المتقدمة، ونتكلم بلغة أنظمتها السياسية الديمقراطية، ونسقطها على واقعنا الاجتماعي والسياسي وننسى أننا في العراق. الحقيقة المرة، هي ثمة تواطؤ شعبي واسع النطاق وإمضاء غير مباشر على شرعية السلطة الحاكمة. والثمن المدفوع يجري عبر التسوية التالية: اتركوا لنا ديانتنا الشعبية ولا تستفزوا أشواقنا المذهبية ونترك لكم السلطة السياسية والدولة ومؤسساتها المنهارة. لا نريد منكم شيء سوى السكوت عن حماسنا الشعبوي وجهلنا المركب. ونحن في المقابل سنحتمل كل هذا الذل. لكن هيهات منا الذلة!