28-أكتوبر-2020

انتشرت صور صفاء السراي في شوارع بغداد بعد اغتياله (فيسبوك)

"صفاء استشهد". وصلتني هذه الرسالة من صديق بعد وقت قليل من إصابة السراي برأسه. وبعد صرخات خامدة وصمت رهيب، يشبه الأبدية التي تعقب الموت، قرّرت الذهاب حال عودتي لمجلس العزاء الذي سيقام على روحه. وصلت ساحة التحرير بعد يوم من استشهاده، وتركت فكرة الذهاب إلى مجلس عزائه. لأبقى في التحرير، العزاء هنا! كان وجهه، وبسرعة قصوى، رُسم على جدران عديدة، على قمصان الشباب الذين كتبوا على بعضها "نريد وطن"، كما أن روحه الثائرة والمتمردة تظهر بين شعارات الملايين الذين لا يعرفون بعضهم، تملأهم بالصوت إن أخذهم التعب. نزلت صورة السرّاي من فوق المطعم التركي، هتف المئات "رافع راسه يا ثنوة ابنج"، كان المشهد مهيبًا ومرعبًا، هتفوا دون أن يتفقوا، كما أن كثيرين لم يعرفوا "ثنوة"، أم صفاء، التي برز اسمها من شهيدنا كفعل يضرب الأعراف الاجتماعية التي ترفع اسم الأب، ويكون شأن الأم ضمن قواميس الاحتقار والعار.

ظل الحزن العراقي على صفاء السراي، مختلفًا، فريدًا، وفيه حالة انكسار وانبعاث بالوقت نفسه

في العادة، فإن الموت، كشأن عراقي خاص، لم يحدث أي جلبة، وحتى حزنه فهو شديد الخصوصية. ما يحدثه موت أي إنسان هنا، هو لثغ خفيف، مثل نزع النواة من الثمرة، لكن موت صفاء السراي، كان كأنه صرخة ضد هذا الهدوء والصمت الرهيب الذي تعقبه الكوارث. الناس ما داموا لم يعرفوا شيئًا عن الحياة، ففي أنفسهم لا يدخل الموت بوصفه جزءًا أساسيًا من المأساة، الناس هنا وفي أدبياتهم ـ دينية واجتماعية ـ علّموا الموت الذي بداخلهم أن يعيش، وهو ما تفرضه أزمنة الانحطاط.

اقرأ/ي أيضًا: صفاء السراي.. هذه قِبْلَتنا

ظل الحزن العراقي على صفاء السراي، مختلفًا، فريدًا، وفيه حالة انكسار وانبعاث بالوقت نفسه، كنت اسأل نفسي كثيرًا؛ لِم يصرخ الحزن في عيون الشباب؟ لكن في واحدة من صور الشهيد تظهر قدمه متسخة كعامل، تستطيع أنت كمشاهد للصورة أن ترى كم يساوي هذا العمل، وتتخيل العرق النازل من جبهته تعبًا، ونظرة الإرهاق المكسورة، مع شمس العراق الضاربة عليها بقوة. يشبه السراي شباب العراق كثيرًا، يشبهنا جميعًا، ينمو الشاب هنا ببطء في عائلة فقيرة، يصارع الدينار لأجل رفقة مع صديق، أو أن يتنّقل إلى منطقة قريبة، يدرس، ثم يتخرّج بحثًا عن وظيفة، فلا يجد أمامه إلا أحلام تموت تدريجيًا. أمضى السراي حياته فقيرًا، ثمّ وجد فرصة لأن يغادر منطقة الفقر، لكنه ما أن حظي بها ـ أي الوظيفة ـ انتقل إلى منطقة أخرى، منطقة الموت. هل هناك استغراب من حب الناس المتزايد له؟ هذا هو رابط الحب وقرينته ودلائله، الشبه، هو مثل أي شاب عراقي. فقير ومتعب، والفرص أمامه قليلة، ومنها؛ المنية.

يقال إن العيون هي الأجزاء الوحيدة من الجسد ما تزال الروح فيها، روح السراي في عيونه، كما هي في عيون الشباب، يشبههم لأنهم يحملون الموت في ملامحهم وفي جباههم، في نظراتهم المنكسرة التي لا تزيف الفجيعة العراقية، يشبههم لأن المستقبل بالنسبة لهم كابوس لا يمكن التفكير فيه، ما قيمته وهو مرهون لمن سرقوا البلاد ودمروا كل فرص الحياة فيها؟

تعرض صور السراي - وأكثرها في الاحتجاج - الكثير من الأحلام المتأخرة في العراق، بلادنا المرعبة، نظرات السراي هي ذاتها عيون الشباب التي يُرسم الخوف فيها كبصمة، لكنها مختلطة بالإرادة، في شيء يجب أن يأتي أو يتحقّق. فجأةً، في توقيت ما، ترى انفجارًا كبيرًا من الأمل بالخلاص والإرادة الصلبة، ما معنى "نريد وطن"؟ إنّه عراقنا الذي يضحك قليلًا ويبكي كثيرًا. إنّه عراقنا الذي يبكي من أجل العدالة والحقوق؛ ضاحكًا مثل الطبول، وهو يصفّق بيديه. هذا ما تشاهده في ملامح البلاد التي تعرضها تقاسيم وجه السراي وهو يتفاخر بأن التظاهرات جعلت منه وسيمًا، لكن هذه الوسامة ستُدفن بعد ساعات تحت التراب. هل لاحظت البكاء والضحك في آن واحد؟ أنها الأحلام المجدفة لشباب لن يصلوا..

بعد يومين من ولادة السراي، أعني موته الذي خلقه في قلوب الشباب، شبيههم، كنت في التحرير صباحًا، رأيت مجموعة من الشباب يقرأون قصيدة لمظفر النواب، كان السراي يرددها كثيرًا "صويحب من يموت المنجل يداعي"، رأيت مراهقًا يرددها بخجل، كان لا يحفظها. نظر إليّ بينما أنا منشغل بالتقاط الصور، قال سأحفظها لأجل صفاء. عرفت وقتها، أنهم يحفظون البلاد في قلوبهم لأجل صفاء الذي قتل قبل أن يحقّق أحلامه. كان يفكّر قبل أن ينام في أوضاع البلاد ـ كما كتب ـ وهو واحد، الآن، يفكر الآلاف من أبناء جيله بالبلاد، وهو الأمر الذي يجعل من جماهير الأحزاب في العراق تشتم واحدًا ينام تحت الثرى مثل السراي، يشتمونه لأنهم يعلمون أنه ليس في قبره، أنه الاسم الذي صار تكثيفًا للأحلام المؤجلة، قل صفاء سيرتعش صوتك وستؤلمك المخيلة مباشرةً، المخيلة التي تسافر لصورة بلاد يسيطر عليها الفساد والسلاح، سيكون وقع الاسم غريبًا، كأنك تعرف أنك في منفى، إلى حين استعادة الوطن الذي أراد صفاء ورفاقه أن يعيدوه.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ساحة التحرير تودع "ابن ثنوة".. ماذا تعرف عن المتظاهر اليتيم؟

حوار| سنان أنطون: صفاء السراي من أسماء العراق الحُسنى