12-أبريل-2022
احتلال العراق

عراق ما بعد الاحتلال لم يكن من الدول المحظوظة (فيسبوك)

لقد اعترف الأمريكيون أنفسهم بتخبّطات إدارة بوش في احتلال العراق. حتى أنّ كبير مهندسي السياسة الأمريكية، مستشار الأمن القومي الأسبق، زبغنيو برجنسكي لم يكن داعمًا لهذا القرار المتسرع. ولم تكن الأوساط الأكاديمية وكبار المنظرين في السياسة الأمريكية، وبالخصوص منظّر الواقعية الهجومية جون ميرشايمر، متفقًا على غزو العراق؛ فكتابات الرجل واضحة إزاء تحريك الجيش الأمريكي خارج الحدود، إدراكًا منه أن توازن القوى كفيل أن يعوض الوجود العسكري الأمريكي في أي إقليم مضطرب في العالم، ويكون التدخل الأمريكي في اللحظات الضرورية والحاسمة. ميرشايمر وغيره الكثير عارضوا التدخل الأمريكي في العراق. لكنّ اللوبي الصهيوني كان له القرار الفصل في احتلال العراق.

من يفتقر إلى نموذج داخلي ويتربى على ثقافة القهر والاستبداد وسحق الكرامة البشرية سيرحب بكل نموذج حتى لو يمنح له الهامش الضئيل من الحرية

 ويمكننا أن نسوق الكثير من النصوص التي كتبت بخصوص هذا الشأن من الجانب الأمريكي نفسه. وأغلب الظن أن ما كُتِبَ من قبل المحتلين أنفسهم، يضاهي ما كتبه العرب والعراقيون على وجه الخصوص، إن لم يكن أكثر، عن فوضى الاحتلال. مضافًا إلى فشل الولايات المتحدة في الحصول على إجماع دولي، لكنها ضربت المؤسسات الدولية عرض الحائط ومضت بقرارها بعد عروض مسرحية مُبتَذَلَة من قبل وزير خارجيتها آنذاك كولن باول بخصوص الذرائع الملفقة التي ساقها حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. وقد تراوحت الذرائع الأمريكية لاحتلال العراق بين امتلاكه لأسلحة دمار شامل، وبين إسقاط صدام حسين، وبين بناء الديمقراطية.

خلاصة الأمر: دولة مهيمنة ومتفردة في العالم، تمتلك أقوى جيش في العالم، ومن أقوى الاقتصاديات، ويتمتع نموذجها السياسي والثقافي بجاذبية عالية، ولديها جمهور غفير في كل إرجاء الكرة الأرضية، حتى أن صدام حسين كان من بين المقلدين لنمط الحياة الأمريكية رغم عدائه الخطابي للإمبريالية الأمريكية، ومهما حصل في العراق لم يؤثر ذلك على جاذبية النموذج الأمريكي، ولا زالت الكثير من الفئات التي تنشط في مواقع التواصل الاجتماعي عند اقتراب يوم التاسع من نيسان، ذكرى احتلال العراق تقدم مراسيم الشكر والامتنان لبوش الابن. ومن يفتقر إلى نموذج داخلي ويتربى على ثقافة القهر والاستبداد وسحق الكرامة البشرية، سيرحب بكل نموذج حتى لو يمنح له الهامش الضئيل من الحرية. ففي النهاية لا تؤمن الناس على فراغ.

  المهم في الأمر، أن القوة الأمريكية لا يوقفها أحد، ولا تقلل من عزيمتها احتجاجات الناشطين في بلدان العالم، ولم تستطع قوى أوروبية مثل فرنسا وألمانيا من ثنيها عن هذا القرار، ولم تستمع لأصوات الغير سوى صوتها الذي قرر الضربة الاستباقية لكل دولة "مارقة"، وأيًا كان موقعها في هذا العالم سيصلها المارينز الأمريكي، لأن الأمن القومي الأمريكي عابر للحدود، وبما أن العراق يهدد الأمن الأمريكي ويضع الأمة الأمريكية في مرمى النيران! فلا تحتاج الحكومة الأمريكية تفويضًا دوليًا لهذا القرار.

ومؤكد أن المصالح الأمريكية ستكون مقدمة على مصالح الغير، سواء قبلنا بذلك أم لم نقبل. والحقيقة المرة تقول بأننا دولًا طرفية ليس لها حضور لافت في السياسات الدولية (يوم أمس تم عزل رئيس باكستان من قبل المعارضة لأنه تجرأ على تحدي الأمريكان، ولأنه ذهب بعيدًا في علاقاته مع الصين وكان آخرها ميناء غوادر الذي ينبأ بهيمنة صينية، فجاء قرار عزله سريعًا! فربما سيوقف الرئيس الباكستاني الجديد أعمال هذا الميناء)، وهي ليست من الخمسة الكبار التي تقرر شأن العالم، ولا تمتلك الفيتو، ولا يمكنها اللعب مع الكبار إلا من خلال الهامش المتاح من الكبار أنفسهم، ومن حسن حظك لو كان موقعك الجيوسياسي مهمًا ويستحق أن يسهم الأمريكان في نشر الديمقراطية فيه! ذلك أن الثمن يستحق ذلك. ستكون من الأعضاء المهمين في نادي الكبار (كاليابان، وكوريا الجنوبية، وأندونيسيا، وسنغافورة،وماليزيا، وفيتنام، ودول الخليج)، وستكون تحت مظلة الحماية الأمريكية، وسيجنبك الأسطول الأمريكي متاعب الحرب ومخاوف الانقلابات، وسيزدهر اقتصادك، وستختار النظام السياسي الذي يلائمك.

يبدو أن عراق ما بعد الاحتلال لم يكن من الدول المحظوظة، ولم يلعب دور "الطوق العازل" مثلما تلعبه الدول الآسيوية المذكورة تجاه الصين؛ أي لم يلعب العراق تلك اللعبة تجاه إيران، بل ثبت العكس عن طريق الأحزاب الحاكمة والتي تنعم بمظلة الحماية الأمريكية؛ إذ جعلت الباب مفتوحًا للجيران لمزيد من النفوذ والهيمنة. وبذلك سقطت أول ورقة عراقية من الاعتبار الأمريكي، وهي جعل العراق طوقًا عازلًا أمام إيران، هذا إن كان الأمريكيون قد فكروا فعلًا بهذا الدور العراقي.

هل استطاعت النخبة السياسية المعادية للسياسات الأمريكية حسب الظاهر أن تقنعنا قبل أن تقنع المحتل بسلوكها السياسي؟

يُفترض أن ما جاء في هذه المقالة فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية هو من البداهات لدرجة أنه أصبح حديث الناس في كل بلد. لذلك ليس من النافع والمهم الإسهاب بماهية الاحتلال، بل من النافع للغاية طرح الأسئلة المفصلية التي تساعدنا على ولوج آفاق جديدة، وأظن أن السؤال المفصلي هنا: هل استطاعت النخبة السياسية، المعادية للسياسات الأمريكية حسب الظاهر، أن تقنعنا قبل أن تقنع المحتل بسلوكها السياسي؟ هل استطاعت أن تناور بالهامش المتاح لها وتؤسس لعراق ديمقراطي جديد وتقدم نموذجًا مغايرًا عن نموذج صدام حسين؟ هل استطاعت أن تقدم مصالح العراق قبل مصالحها الفئوية التي تضعف البلد وتمزقه شر ممزق؟ هل استطاعت أن تستثمر الثروات النفطية الهائلة التي تدفقت على العراق وتشرع بنهضة عمرانية واقتصادية؟ يا ترى أين تكمن مشكلتنا الحقيقية: بالاحتلال أم بالاستقلال أم بالاثنين معًا؟!