02-مايو-2023
رؤساء وزراء العراق

الاقتراب من الملفات الداخلية غير مسموح (ألترا عراق)

يصل رئيس الوزراء في العراق إلى السلطة التنفيذية بآليات سياسية معقدة تعتمد على التوافقات الداخلية (المكوناتية) والخارجية (الدولية والإقليمية ) وإن تعارضت هذه الآليات مع المواد الدستورية، فغالبًا ما يتم تعطيل تلك المواد عبر التوافقات لفترة معينة وإعادة العمل بها لاحقًا بذريعة استمرارية إدارة الدولة، وهو تطبيق لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة،  وهذا يعني أنّ هناك منظومة سياسية تحدد آلية الوصول وبذات الوقت تحدد مسارات الحكومة التي أصبحت تعبر عن رغبات وأهداف هذه المنظومة وجماهيرها، من خلال رئيس الوزراء بشكل مباشر، وفي حالة إخفاقه بتحقيق ما تريد، فإنها تذهب باتجاه خلق الأزمات من أجل إسقاطه، إلا أن هذا لا يمنع رئيس الوزراء من خلق الفرص أو الفرص التي تُتاح لهُ التحرر من قيود المنظومة السياسية، وفي الواقع هناك فرص اُتيحت لرؤساء الوزراء كان يفترض من خلالها تعزيز الخيار الديمقراطي على مستوى السلوك والممارسة واستكمال مقومات الدولة الاتحادية، إلا أنهم لم يستغلوا هذه الفرص بشكل صحيح لأسباب قد تكون داخلية وخارجية، ويمكن هنا تناول الفرص لكل رئيس وزراء بعد عام 2005.

أولًا: فرص رئيس الوزراء نوري المالكي (2005_2014)

تولى "نوري المالكي" السلطة لولايتين متتاليتين، تمكن في الولاية الأولى من تخفيف حدة الحرب الطائفية عام 2006، بعد توافقات أمريكية إيرانية بضرورة استقرار العراق، رافق ذلك حصوله على تأييد داخلي عبر بتشكيله تحالفات محلية سياسية منبثقة من الصحوات في المحافظات الغربية، وأيضًا تشكيله لمجالس الأسناد العشائرية في مناطق الوسط والجنوب. انعكس هذا التأييد بشكل إيجابي على نتائج انتخابات مجالس عام 2009، بحصول قائمته على المركز الأول في المحافظات التي شارك فيها،  كما حصل في الانتخابات البرلمانية على المركز الثاني وتشكيله الحكومة بعد التوافق الأمريكي الإيراني، فهو لم  يستغل فرصة التحالفات ونتائجها الانتخابية المحلية في هندسة هوية وطنية عراقية من خلالها يتم تحديد مسارات وتوجهات الدولة العراقية، ولم يستغل  التوافق الأمريكي الإيراني على توليه ولاية ثانية بعد نتائج الانتخابات البرلمانية كفرصة من خلالها يعزز هذه الهوية، عبر جعل العراق ساحة تتوافق فيه المصالح الأمريكية الإيرانية، بدل ساحة صراع وتصفية حسابات عانى منها العراق ولا يزال يدفع ثمن ذلك الصراع بتغذيته طائفيًا. تبددت هذه الفرص بطموحات الولاية الثالثة عبر اتباع بعض السياسات التي  وصفت بالطائفية حسب ما يتهمها به خصومه، وأيضًا الرغبة الدولية والإقليمية في جر العراق إلى الفوضى، وذلك عبر سيطرة "داعش" على ثلث مساحة العراق. 

نوري المالكي

ثانيًا: فرص رئيس الوزراء حيدر العبادي (2014_2018)

حصلت حكومة "حيدر العبادي" على دعم داخلي، متمثلًا بالمرجعية الدينية العليا في النجف، ودعم خارجي بشقين؛ الأول دعم بريطاني والآخر التحالف الدولي المشكل لمحاربة تنظيم "داعش"،  تمكن من خلاله في تحرير المحافظات التي استولى عليها التنظيم، كما استطاع  تخفيف حدة الاحتقان الاجتماعي  المذهبي في المجتمع العراقي، الذي كان نتيجة حتمية لاحتلال "داعش" لتلك المحافظات عبر  إيقاف حالات الانتقام الفردية التي رافقت عمليات التحرير، وساهمت سياسات حكومته بإعادة ثقة القواعد الاجتماعية السنية بالنظام السياسي العراقي، عبر تطبيع الأوضاع َوعودة السكان من مناطق النزوح، أما الفرص الأخرى التي تمثلت في تقويض استفتاء إقليم كردستان عام 2017، بعد توافق إقليمي، والذي مكنه من فرض السلطات الاتحادية في المنافذ الحدودية للإقليم، وكذلك السلطة الاتحادية في كركوك والمناطق المتنازع عليها.

لم يستغل العبادي هذه الفرصة في تكريس السلطات الاتحادية عبر القوانين، وإنما اكتفت حكومته بمجموعة من الإجراءات التي تخف حدتها بتوافقات سياسية، كما لم تستطع في تقنين السلاح المنتشر الموازي لسلاح القوات المسلحة، كما لم يتمكن من محاربة منظومة الفساد المتوغلة في مؤسسات الدولة، مقارنة بالدعم الذي حصل عليه سواء كان داخليًا أو خارجيًا على الرغم من كشفه علنًا للجان الاقتصادية التابعة للأحزاب السياسية، ويبرر العبادي ذلك أن التوغل بملفات الفساد وكشفها يهدد الدولة ويغرقها بالأزمات لارتباطه بمنظومة الحكم. 

حيدر العبادي

ثالثًا: فرص رئيس الوزراء عادل عبد المهدي

حظيت حكومة عبد المهدي بتوافق سياسي عطل المادة (78) من الدستور العراقي لعام 2005، وتمثل هذا التوافق عبر كتلة "سائرون"  الحاصلة على أكبر المقاعد في تحالف الإصلاح، وكتلة الفتح الحاصلة على أكثر مقاعد تحالف البناء لتشكيل الحكومة، لكن هذا التوافق الذي أنتج تلك الحكومة، لم تستثمره حكومة عبد المهدي في تحقيق برنامجها الحكومي؛ بسبب سياسات حكومته أو سياسات القوى السياسية التي شكلتها، مما أنتج معارضة اجتماعية شديدة عبر الحراك الاجتماعي، الذي مثله حراك تشرين، دفعته نحو الاستقالة على الرغم من الزعم بمجموعة الإصلاحات التي قدمتها حكومته.

عادل عبد المهدي

رابعًا: حكومة مصطفى الكاظمي (2020_2022)

ربما أٌجبرت كتل التوافق السياسي على تمرير حكومة الكاظمي؛ بسبب  ضغوط الشارع المحتج ضد سياسات وممارسات منظومة الحكم في العراق، حيث حصلت حكومته على رضا الشارع إلى حد ما، مع رضا المرجعية الدينية العليا، وحددت مهامها بإجراء انتخابات مبكرة، على الرغم من أن الدستور العراقي الدائم لعام 2005، لم يشر في مواده إليها، وكشف قتلة المتظاهرين، ومحاربة الفساد والسلاح المنفلت.. لم تستطع هذه الحكومة من استثمار  الدعم الذي حصلت عليه في تحقيق برنامجها الحكومي  بصورة حقيقية، عبر تقديم مشروعات القوانين التي تحد من عمليات الفساد ومحاربة السلاح المنفلت، وبدلًا من ذلك، فهي اكتفت بإجراء الانتخابات وكشفت بعض ملفات الفساد التي لا تقارن مع حجم المبالغ المسروقة.

إنّ حكومة الكاظمي، كانت كالحكومات السابقة، لا تريد التوغل بشكل كبير في الملفات الداخلية المؤثرة على  النظام السياسي، فالاقتراب من هذه الملفات يعني من الناحية العملية انهيار النظام السياسي ومن ثم الاقتتال الداخلي، لارتباط هذه الملفات بالمنظومة السياسية، لذا ابتعد الكاظمي عن الملفات الداخلية، ونسج سياسية خارجية متوازنة مع المحيط الإقليمي للعراق الذي شهد خلال فترة حكومته انفتاحًا عربيًا على العراق مثلتهُ اجتماعات ثلاثية بين العراق والأردن ومصر. 

الكاظمي

 على ما يبدو، أن أي رئيس وزراء حالي أو قادم مهما توفرت له الفرص، فإنه لن يستيطع أن يغير الواقع أو يقدم شيئًا يذكر في ظل استمرار آلية وصوله إلى السلطة، مما يستلزم تغييرها بتعديلات تشريعية على قانوني الانتخابات والأحزاب السياسية، بما يحقق خيار الأغلبية السياسية، وتعديل هذه القوانين غير ممكن من الناحية العملية في ظل وجود ثقافة أحادية التفكير لدى منظومة الحكم التي تعتقد بالأغلبية استحواذ طرف في مكون واحد على بقية الأطراف، ولا يمكن لطرف أن يمثل "مكون"، لذا سيقتصر مهام رؤساء الوزراء على الملفات الخارجية دون الملفات الداخلية، وما أن يحاول الاقتراب من المفات الداخلية الخطرة سيكون مصيره الاستقالة أو الإقالة عبر لصق سياسات الفشل بحكومته.