06-أبريل-2023
الدين في العراق

لا يمكن للدولة أن تفرض صيغًا أخلاقية (فيسبوك)

كل سلطة تحاول تتضخم على حساب الدولة ستخلق عاقبتها بيدها. والعاقبة ستكون على صورة خراب تدريجي، وبالخصوص حين تكف أن تكون دولة محايدة وتصنف الناس أخلاقيًا طبقًا لأيديولوجيتها. فهي بهذا تكون قد هَوَت في الظُلمَة، بل ستكون، عمّا قريب، شبح دولة، يتقافز عليها الانتهازيون والوصوليون وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

 ومتى ما دخلت هذه "الدولة" في دوامة الإكراه، وتغدو الأخلاق في قبضتها كفزاعة تقوية تقمع من خلالها الخصوم، ستطيح بنواة الأخلاق، وأعني بها الجانب الطوعي. تصور أن تكون مُكرَهًَا على الأخلاق، ماذا ستكون العاقبة يا ترى؟

الشرطة الأخلاقية تعني موت الأخلاق وميلاد النفاق والانتهازية

يصعب إعطاء الفضائل الأخلاقية صيغة إلزامية. حتى في الدين تتقدم الشريعة بوصفها إلزامًا شرعيًا، في حين تتخذ الفضائل الأخلاقية فسحة واسعة للفرد ليتحلّى بها انطلاقًا من شعوره بالحرية والاختيار. لا يعني أنّ الشريعة لا تستبطن بعدًا أخلاقيًا على نحو العموم، بل يعني أن الفضائل الاخلاقية تتسع دائرتها خارج الأطر الفقهية.

الأخلاق مسؤولية فردية ومصدر إلهام مهم، أي متى ما كان الفرد مسؤولًا أخلاقيًا، سيعزز بدوره دور القدوة والأسوة. أما لو تحولت الأخلاق إلى صيغة إكراه وشعارات فارغة، فسينتفي دور الحرية، وهذه الأخيرة تعني ما تعنيه: نفي الإكراه.

الأخلاق واجبة بالمعنى الطوعي للكلمة؛ واجبة لأنها تصدر من أحرار قرروا الاختيار والمسؤولية، لا بصفتهم كائنات منقادة، وإنما بصفتهم إمكانيات هائلة للانفتاح على المطلق بعيدًا عن أي إكراه. إنها تجربة مثيرة حقًا أن تكون حرًا ومختارًا لتتحلى بالفضائل الأخلاقية التي تكشف كينونتك وتدفعها إلى أقصى مدى ممكن.

 إن الأخلاق إمكانيات مفتوحة قابلة للتتميم في كل آن "إنما بُعِثتُ لأتمّمَ مَكارمَ الأخلاق". وفي نهاية المطاف لا توجد شَرطة مختصة بالأخلاق، وإنما يوجد أفراد أحرار للتحلي بها بمحض اختيارهم.

الشرطة الأخلاقية تعني موت الأخلاق وميلاد النفاق والانتهازية. وبروز فئات وصولية منتفعة من هذا الإكراه!

 هذا من جهة الأفراد، أما من جهة المجتمع، فلا تضبط إيقاعه سوى القوانين، إذ لا يمكن تعميم التكاليف الخاصة وجعلها نسقًا عامًّا.

 أنا مواطن أخضع لتشريعات الدولة، وهذه الأخيرة تضمن لي حريتي في اختيار جملة من الوضعيات ومن ضمنها سلوكي الأخلاقي. إن هويتي كمواطن في الدولة الحديثة، لا تمنعني من التخلق بأخلاق الإسلام، أو المسيحية، أو البوذية، أو أي مصدر أخلاقي كان. ولا يحق لها (الدولة) تصنيف الناس أخلاقيًا بقدر ما تنظر إليهم كمواطنين فحسب.

 متى ما تم تصنيف الناس من قبلها فستخرج الدولة عن حيادها المأمول، ويسقط عنها تعريف الدولة، بل السلطة هو الاسم المطابق لمنطقها المتحيّز.

ثمة نكتة طريفة يتفق عليها، ضمنًا، المشرع الديني والمدني، وهي ترك الفضاء الأخلاقي خارج التشريعات الإلزامية، لأنهما يدركان جيدًا، أن وضع البنود الاخلاقية ضمن دائرة الإكراه سيحيل السلوك المواطني إلى عملية شبه مستحيلة، وذلك لأن المواطنين بصفتهم هذه يصعب تعريفهم أخلاقيًا في المجتمع المواطني بوصفهم كائنات أخلاقية؛ فمهمة الدولة تعميم القانون المدني لا الأخلاقي، ومن ثم هناك فسحة واسعة للمواطنين بوصفهم أفرادًا، أن يختاروا الرؤية الأخلاقية التي تنسجم مع ما يتبنون.

تهذيب النفس، التحلي بالفضائل، التخلي عن الرذائل، والتجلي بصفات الله (عبدي أطعني تكن مثلي..)، كل هذه الحالات لا تأخذ بعدًا إلزاميًا حسب الظاهر، بقدر ما تتسع مساحة الحرية والاختيار والمسؤولية للفرد للعمل بها، وبعكس ذلك- أي إذا اتخذت صفة الإلزام- سيغدو الفرد منافقًا، لأنه سلوكه الأخلاقي مبنيًا على الإكراه.

والمقصد من ذلك: لا يمكن للدولة أن تفرض صيغًا أخلاقية معينة وتمنحها صفة الإلزام، وإنما تشرّع القوانين الإلزامية لجميع المواطنين، كما لا يحق للدولة-حتى في مجتمع لا ديني إن وُجد- أن تمنع الدين من ممارسة طقوسه. ليس هذا فحسب، بل لا يحق لها أن تمنع المتدينين أن يبشروا بدياناتهم الخاصة عبر عقد المؤتمرات وإنشاء المدارس وغيرها.

 ليس للدولة الحق أن تعتمد دينًا أو أيديولوجية إلحادية، فبهذا الأمر تسقط منها صفة الحياد والموضوعية. الجماعات الدينية تخشى من هذا الحياد. لكنها تقدسه وتطالب به في المجتمعات الغربية.

 إنها تجعل من قيم الحرية والعدالة قدس أقداسها متى ما كانت أقلية، وبخلاف ذلك تطالب بالعكس، وتعتبر كل ما يحدث عبارة عن خيانة لحياد الدولة الديمقراطية.

إنها تخشى على الدين وتخشى على المتدينين من الانزلاق في مهاوي الانحراف، كما لو أن الدولة حينما تتحول إلى دولة دينية، أو على الأقل دولة تميل إلى الدين، سيضمن لها الحفاظ على الشريعة والأخلاق. والوقائع الموضوعية لا تؤيد كل هذا الزعم على الإطلاق.

إن الجماعات الدينية تعلم قبل غيرها أن إكراه الناس على ما يختارون سيحيلهم إلى كائنات منافقة، وستظهر فئات اجتماعية تحترف الوصولية والنفاق، وتتحول بمرور الوقت إلى شريان نازف في المجتمع المواطني، وعالة كبيرة على مؤسسات الدولة.

 

تحاجج الجماعات الدينية عادة ضمن المنطق الديمقراطي؛ إنها أغلبية ويحق لها أن تفرض ما تريد. لكن المنطق الديمقراطي لم يُصَمَّم لجماعات دينية، بقدر ما تم تصميمه لناخبين سياسيين يختارون نوابهم لتشريع القوانين المدنية المعمول بها في الدولة الحديثة.

 فالأغلبية هنا هي أغلبية سياسية محضة وليست أغلبية طائفية أو عرقية.

ثم هل تؤمن الجماعات الدينية بدولة دينية؟ لماذا إذًا لا تعرض رؤيتها السياسية بخصوص هذا الشأن وتبين الملامح العامة للدولة الدينية؟ لماذا لا توجد نظرية سياسية متكاملة للتنظيمات الدينية خارج فكرة الدولة الغربية الحديثة؟ 

لا يمكن للدولة أن تفرض صيغًا أخلاقية معينة وتمنحها صفة الإلزام

كم يسعدني ذلك الحدث التاريخي: أن تكون دولة ذات هياكل إدارية وقانونية تعتمد على الفقه، لماذا؟ لكي يتسنّى للجماعات الدينية تجربة خطابها السياسي على أرض الواقع وتُطوى هذه الصفحة إلى الأبد ويتفرغ المتدينون لطقوسهم الروحية، وينفرد الباحثون الدينيون لتقديم دراسات وبحوث فقهية وكلامية وفلسفية، ليدخلوا في حوار موسع مع الاتجاهات الفكرية الحديثة، مثلما يفعل فلاسفة اللاهوت في الغرب و يحجزوا لهم مكانًا في صفوف المفكرين والفلاسفة، بدلًا من الخطابات الحماسية التي لا تؤسس لشيء بإطلاق سوى المزيد من التخندق وتكريس الفساد والأهواء العنيفة.