15-أبريل-2020

الممارسة السياسية تفضح كل مدعي (Getty)

لم تعد السردية الطائفية بين الشيعة والسنة بصورتها الكلاسيكية تلهب حماسنا لنقدها من جهة، وتلهب حماس الطائفيين وأوهامهم المريضة من جهة أخرى في الوقت الحاضر. إن مقولات الفريقين وقدرتها الكفاحية على تأصيل الكراهية ونبذ الآخر تحت يافطة "الطائفة الحق" فضتحها ممارستهم السياسية، ذلك أن هذه الأخيرة كانت بمنزلة العار الذي يضيء لنا في كل لحظة أكاذيب الطائفيين وتملّقهم السلطة. أما المبادئ التي صدعوا رؤوسنا بها فتبيّن أنها ليس لها وجود إلّا في ضمير الأفراد فحسب. فكذبة التأصيل لا محل لها من الأعراب في ميدان الممارسة السياسية. وكان خصوم الطرفين أمناء لمقولة السقيفة سيئة الصيت "منّا أمير ومنّكم أمير".

الممارسة السياسية كانت بمنزلة العار الذي يضيء لنا في كل لحظة أكاذيب الطائفيين وتملّقهم السلطة

 لقد كان هذا الحاضر مقدمة عميقة لفهم جذور هذا الصراع على حقيقته بمعزل عن كل السرديات المثالية. والملفت بالموضوع أن الجذور السياسية للصراع الطائفي لم تكن واضحة بهذا الشكل عند الكثير؛ حيث يولد الفرد في طائفته ويتلوث ذهنه بمختلف صنوف الخساسات والأمراض الطائفية، فتنشئ أجيال لا تعي الحقيقية الطائفية وجذرها السياسي، وهو الصراع على السلطة. ولا أعني الصراع الذي دار في الصدر الأول من الإسلام، ذلك أن جيل الحاضر من الخصوم الطائفيين لم تكن تعنيهم سيرة الخلفاء، بل أعني بالذات راهننا المليء بالإشارات والشهادات التي تؤكد مسعى الفريقين وهم يتصارعون كما الضواري، لا لأجل علي وعمر أو أبو حنيفة أو جعفر الصادق، ولا لأجل مبانٍ فقهية أو عقائدية، وإنما لأجل السلطة فحسب.

اقرأ/ي أيضًا: من تاريخ الألم العراقي

لقد صدّع رؤوسنا أهل السنة بعدم الخروج على الحاكم الظالم درءًا للفتنة بين المسلمين. لكن ميدان السياسة هو المختبر الذي يغربل نفاقنا ويعري دوافعنا.. لقد وقع سنة العراق -وأعني نخبهم- في ذروة الكذب والنفاق وأثبتوا للآخرين أنهم كائنات متعطشة دومًا وأبدًا للسلطة. فسواء كان الحكام في العراق ملاك طاهر أم وحش كاسر، لا يستوفي الشروط مالم يكن من المذهب السني، فتوالت على العراق - ما بعد 2003- أدبيات مقاومة لم نعهدها من قبل، وأصبح الذبح على الهوية هو العلامة البارزة التي تؤطر عمل "المقاومة"، ومن غرائب الصدف كان كفاح ما بعد التغيير يحمل طابعًا طائفيًا قذرًا.

حينما كنت في العاشرة من عمري ويوم كان خيالي جامحًا استبحت لنفسي صورًا وأخيلًة شتّى، ولأنّي من جذور شيعية، استوطنت في ذهني صورة مثالية وساحرة عن الحركات الشيعية السياسية التي غادرت العراق جرّاء البطش الذي تعرضّوا له من سلطة البعث، وكنت أتمثلّها على شكل شخصيات نبوية، ما إن تُثنى لها وسادة السلطة فستحل علينا بركات الأرض والسماء. ماذا ننتظر من مظلوم ومقهور من قبل السلطة المستبدة غير أن يترجم لنا نموذجًا مختلفًا عن سابقه فيما لو انفتحت له أبواب السلطة؟ بل أكثر من ذلك، كانت الأسس التاريخية والعقائدية تلهمني، حينما بلغت، الكثير من هذا اليقين؛ ذلك أن المبدأ الذي ميّز التشيع هو مقاومة السلطة الفاسدة، والتاريخ شاهد على ذلك.

نحن مدينون لغرامشي، فقد علّمنا هذا الفيلسوف، أنه لكي تبدو حججك المنطقية مقنعة وأفكارك متماسكة فلابد أن تعرضها على ميدان السياسية، يعني أن تدخل في حيّز الممارسة، خصوصًا إذا كنت تسعى للتغيير. ولهذه المقولة تطبيقات صادمة؛ إذ لم يكن ساسة الشيعة أمناء لمقولاتهم الكفاحية، لقد جاءوا بعقد التاريخ وتناقضاته المؤلمة، حيث امتلأ سجلهم السياسي بمفارقات تدعو للدهشة.

 لقد سجّل حاضر السياسة الشيعية أنقلابًا على المبادئ السياسية التي تمسكوا بها يوم كانوا في صفوف المعارضة، إذ فتحت لهم دنيا لم يكن يحظى بها الأنبياء والرسل، وسقطوا في أول تجربة سياسية لهم، وتحولت المبادئ الحسينية، التي يتمسّك بثوريتها الشيعة، إلى طقوس شعبية  لتتحول هذه الحشود المليونية إلى أكوام من الناخبين يجددون العهد في كل عام لأغلبيتهم الطائفية، أما المطالبة بالكرامة الإنسانية فقد كثّفتها هذه الطقوس بمقولة مفادها: يكفي أننا أغلبية حتى لو كنّا نسكن في مدن لا تصلح للعيش البشري، وتحول شعار "هيهات منّا الذلّة" إلى عناد سياسي واجتماعي يعزز من قوة الفساد والإفساد في المنظومة السياسية التي تمثلها الأغلبية الشيعية.

لنعد ما قلناه على شكل سؤال هذه المرة: كيف نختبر المبادئ العقائدية لكلا الفريقين؟ لم تعد الأقيسة المنطقية المجردة ولا المقولات المتعالية على التاريخ تكفي للبرهنة؛ فالزمن يخترق كل هذه الحجج الصلبة التي حفظناها عن ظهر قلب، ذلك أن كل مقولة لا بد لها أن تحايث الواقع والتجربة وتمشي معهما جنبًا إلى جنب. تقول لنا التجربة السياسية، وهي المختبر الوحيد لكشف حججنا المنطقية، إن "النخب" السنية والشيعية كانت كاذبة ومنافقة ومتنكرّة لكل أدبياتها المذهبية.

 الممارسة السياسية تفضح كل مدعي وتثبت لنا بما لا يقبل الشك ضرورة فصل الدين عن السياسة

لكن وبعد كل هذا الألم، الذي لا يطاق في كثير من الأحيان، لازال الكثير من "الطيبين" يرددون هذه المقولة العزيزة على قلوبهم "هؤلاء لا يمثلون الإسلام". نعم أنهم لا يمثلون الإسلام، لأننا وإلى الآن لا نفهم هذا السر الغامض في صعوبة التطبيق!

اقرأ/ي أيضًا: متلازمة العبيد

إن الممارسة السياسية تفضح كل مدعي وتثبت لنا بما لا يقبل الشك ضرورة فصل الدين عن السياسة، لكي لا نتورّط بالتبرير كل مرة! لكن لا زالت الجماهير التابعة، وبعد كل هذه الكوارث، تستنشق رائحة المؤامرة حينما يتناهى إلى سمعهم ضرورة العَلمانية، ويتمثّلونها على شكل مقولة إلحادية إباحية لا غاية لها سوى ضرب الدين! كما لو أن الدين يشهد ازدهارًا غير مسبوق على يد هذه النخب السياسية الفاسدة.

 إن النخب السياسية الشيعية الحالية أثبتت كراهيتها الشديدة لكل شيء يتعلّق ببناء الدولة وإرساء قيم العدل والمساواة. والمفارقة المدهشة، إن أكثر ضحايا هذه النخب هم من الشيعة أنفسهم! لكن لماذا نرهق أنفسنا بهذا الكلام مادام التبرير حاضرًا وبقوة، فالإنسان حيوان مبرر على أي حال.

يتساءل المرء: هل حقًا هناك مبادئ سياسية تميّز الشيعة عن السنة؟ هل هناك مبادئ سياسية تميز السنة عن الشيعة؟ يكفي أن نطلّع على ضحايا الطرفين لنكتشف أن أكثر ضحاياهم هو نتيجة منطقية للمبادئ المذهبية التي كشفت ألاعيبها الممارسة السياسية، ولا عزاء للطيبين في هذه اللعبة القذرة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كورونا العراق: دروس المواطنة والدين وحكم الكونكريت

صراع النماذج