02-أبريل-2020

نشهد عنادًا ومقاومة من الفقراء وإصرار على الاستمرار في العمل رغم خطورة الوباء (Getty)

ما أن تظهر كارثة عالمية تهدد بقاء الكائن البشري وتربك شعوره المتأصل بالوجود، حتى يدفعه الحنين بقوة إلى أعمق دهليز في ذاكرته البدائية. في نكسة حزيران، كما يذكر أحد الكتاب، أطلقت المخابرات المصرية، يومذاك، شائعة مفادها، إن مريم العذراء تمشي في شوارع القاهرة. وفي سياق التراجع والانحطاط الذي منيت به سلطة البعث في العراق، أطلقت المخابرات العراقية شائعة مفادها، إن العباس بن علي ابن أبي طالب ظهر في ضريحه وهو يعتلي صهوة فرس بيضاء. وقد صدّق على هذه الإشاعة عوام الشيعة البسطاء، وظلت هذه الشائعة سارية المفعول لعدة أشهر إلى أن  طواها النسيان حتى يظهر غيرها في مجتمع يمتلك القدرة على التوليد المستمر لمثل هذه الخرافات.

في الأزمة لا شيء يمكنه أن يبهج الذاكرة، كسَلوة عزاء، مثل الخرافات باعتبارها نقاط مرجعية تعوض البدائل المفقودة

ولم يكتفِ صدام حسين وزبانيّته بهذه المسخرة؛ بل عمّد نفسه كحفيدٍ لأئمة أهل البيت، وبدا كما لو أنه مشرف على عهد جديد: حياة التقوى والورع. والشائعة الثالثة التي أذكرها، هي مسخ شابة وانقلابها إلى مخلوق مرعب كونها لم تؤدي فروضها الدينية الواجبة. الطريف في هذه الحكايات أنها حدثت، وبالتوالي، في أيام التسعينيات، يوم كانت محنة الحصار الاقتصادي اللا أخلاقي على أشدها، وكان رغيف الخبز لا يقدر بثمن، فلا شيء يمكنه أن يبهج الذاكرة، كسَلوة عزاء، مثل الخرافات باعتبارها نقاط مرجعية تعوض البدائل المفقودة. واللافت في الأمر؛ إن نسبة شيوع هذه الخرافات في المناطق الفقيرة وذات الكثافة السكانية العالية أكثر منها عند الأثرياء في المناطق الراقية.

اقرأ/ي أيضًا: التحدي الصيني

يظهر أن الكارثة العالمية تتخذ عدة أشكال تأويلية! ففي بلدان تنعم بالمؤسسات العلمية والرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي تظهر لديها الأجوبة، بشكل عام، على شكل مقولات علمية غير قابلة للتأويل. على سبيل المثال، لا يحتاج سكّان طوكيو، أو بكين، أو برلين، أو باريس من اللجوء إلى نقاط مرجعية من التراث والفولكلور لتبديد قلقهم، بمعنى أن السرديات الشعبية لا تجد لها جمهورًا غفيرًا هناك. وبالطبع، لا يمكن وضع سكّان طوكيو وسكّان مدينة الصدر، وسكّان برلين وسكّان مدن الحواسم، وسكّان باريس وسكّان الحسينية، في نفس السلّة!

 لماذا لا نضعهم في سلّة واحدة، هل ثمّة فوارق عنصرية تجعل من هذا الشعب أكثر تقدمية من ذاك؟ كلا، وإنما الفوارق المؤسسية تلعب دورًا محوريًا في عادات الناس وسلوكياتها وأنماط تفكيرها. مثلًا، في فترة السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات من القرن الفائت، كان العراق في مقدمة الدول الرائدة في نظامها الصحي على مستوى الشرق الأوسط، ولا زال جيل الباحثين والعلماء الذي ينتمي لتلك الحقبة هو الجيل الأبرز مقارنة بالأجيال الحالية، إذ يحتل العراق الآن مقدمة الدول المتخلفة في كل شيء! ما الذي حدث؟ غياب الدولة وتحطيم المؤسسات، واغتيال الكفاءات، وشيوع الطائفية السياسية، وبروز سلطة سياسية فاسدة تتخذ من الولاءات الطائفية والعرقية سندًا لها.

في مثل هذا الوضع المزري لا ننتظر أن تتنزل علينا صناديقَ ذهبية من السماء تحمل معها تفكيرًا عقلانيًا ليتفجر في عقول سكّان مدن الحواسم! ذلك أن كل الوقائع التي ذكرناها تسهم في تأسيس بنية خاصة للتفكير؛ التفكير السحري واللاعقلاني، والذي يتخذ من الخرافات سندًا له في البقاء! كل ما ذكر أعلاه مقدمة جوهرية للتشجيع على تفشي الغرائزية والفكر الحماسي. بكلمة أخرى: إن المؤسسات تعزز طرق التفكير المنهجي، وتخلق مجتمعًا عقلانيًا، ذلك إن العقلانية تعني "نزع السحر عن العالم" بتعبير ماكس فيبر. بينما في المجتمعات التقليدية يتفشى التفكير اللاعقلاني والعداء الواضح للخطاب النقدي. النموذج الشائع هو من يحدد طرق التفكير؛ في بلد تتوفر فيه مؤسسات بحثية رائدة، مثل هارفرد، وأكسفورد، والسوربون، يخلق بيئة مثالية للتفكير المنهجي، وفي بلد لا توجد فيه مؤسسة راسخة سوى المؤسسة الفقهية (وهي مهمة لمعتنقيها)، وبيئة قبلية، وأكاديميات تحولت إلى مطابع للشهادات فحسب، لا ننتظر منهم تفكيرًا عقلانيًا. بل من الإجحاف لوم الناس على التفكير العقلاني طالما يفتقرون لبيئة اقتصادية وسياسية آمنة، وهي بدورها، ستوفر، من حيث المبدأ، بيئة علمية خصبة، ومؤسسات تمويل ضخمة للمشاريع البحثية.

فبالتالي، ومن وجهة نظر بسيطة، مالم نأخذ كل هذه التحديات، فنحن في أحسن حالاتنا لسنا سوى كائنات تحترف الترديد والمحاكاة. لا يعني هنا تشجيع الناس على الهلوسة! وإنما نتعدى التفكيرالرغبوي، والتعلق بمحاكمة النتائج، بقدر ما ننظر للأسباب نظرة الباحث الموضوعي، الذي لا يجد متسعًا لشتم الناس والتهكم عليهم. كما لا يعني هنا تشجيع بعض خطباء المنابر الجهلة وميلهم الغريب للخرافات وسعيهم الحثيث لتشجيع الناس على اعتناق الغرائبي واللاعقلاني. كل ما في الأمر أن نميز بين البحث العلمي والشكوى الصبيانية! ذلك أننا نتماهل في الأولى ونتمسك بالثانية، رغم أن أدعائاتنا تأخذ صيغة الأولى!

 أظنها ليست فرضية جديدة، لأنها تتمتع بإجابات وافية، لكن فلنعتبرها فرضية جديدة للمتذمرين، والفرضية نابعة من السؤال التالي: لماذا تبدو هنالك علاقة طردية بين طرق التفكير العقلاني وحضور مؤسسات بحثية رصينة، ولماذا يغيب التفكير بغياب تلك المؤسسات؟ لماذا نشهد عنادًا ومقاومة من الفقراء وذوي التعليم المتدني لكل أشكال العقلانية، وإصرار غريب على الاستمرار في العمل رغم خطورة الوباء. وفي المقابل نشهد انضباطًا والتزامًا باللوائح والقوانين لدى الطبقات الميسورة بشكل عام، لماذا تتفشى ثقافة "القطعان"، ونعثر على عيّنة من المتعلمين يشجعون على  شيوع الخرافات في المجتمعات التقليدية، بينما لا نعثر على هذه الظواهر، بشكل عام، في المجتمعات الحديثة؟

المؤسسات تعزز طرق التفكير المنهجي، وتخلق مجتمعًا عقلانيًا، ذلك أن العقلانية تعني "نزع السحر عن العالم" بتعبير ماكس فيبر

لا أظن الأسئلة والأجوبة بهذه الصعوبة، بل تكمن الصعوبة حينما نتجاهل كل الشروط والأسباب التي تولّد الظواهر، وننتصر لأسبابنا النفسية، وهي أن نغلف جهلنا ونرجسيتنا الطفولية بغلاف العلم، وهذا الأخير محايد وموضوعي، يبحث عن الأسباب ويضع لها الحلول. من يبحث عن حياة مثالية فليساهم في وضع الحلول، وإن لم يستطع فليكن رحيمًا بنفسه والآخرين.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

جدي وغارة الكورونا

كورونا ورجال الدين.. هل تعلموا الدرس؟