18-فبراير-2019

مكافحة الفساد (خضير الحميري)

هناك ما لا يُعد أو يحصى من المناصب التي وضعت لمتابعة شؤون العمل في الوزارات والمؤسسات الحكومية كرقيب ومتابع لكل البيانات وآليات العمل، تبدأ من منصب مفتش إلى توفير الهيئات الكثيرة التي لم تحد من الفساد، إضافة إلى "النزاهة" بتفرعاتها وكوادرها، وفوق ذلك كلّه، لم تستطع الحكومات المتعاقبة من حكومة أياد علاوي المؤقتة إلى حكومة عبد المهدي الحالية أن تضع حدًا للفساد وأباطرته، حتى غدا مستشريًا في جميع مفاصل حياة هذا البلد المكلوم.

في العراق.. نخترع المناصب تلو المناصب لمكافحة الفساد دون جدوى أو نتيجة

في بداية حكومة حيدر العبادي تم اختراع، ولا تتفاجئ بهذه الكلمة، فنحن ننافس البلدان الصناعية، هم يخترعون ونحن أيضًا نخترع مع فارق الإنتاج، هم طائرات وسفن ومراكب وأجهزة متطورة وأدوية وبحوث، ونحن نخترع مناصب لمكافحة الفساد علاوة على المناصب غير المجدية في الدولة العراقية، وآخرها "المجلس الأعلى لمكافحة الفساد"، بعد التصريح المثير للعبادي في البرلمان بأنه قد أكتشف عددًا مهولًا من الفضائيين في الجيش العراقي، وأطلق شعاره المعروف "سنضرب بيد من حديد"، وبالتالي لا اليد ضربت ولا الحديد برهن صلابته.

اقرأ/ي أيضًا: 20 قصة فساد.. كيف ضاعت 500 مليار دولار في العراق؟

ثم بعد ذلك، أعاد رئيس الوزراء العراقي الحالي عادل عبد المهدي تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في محاولة منه للإيفاء بوعوده في الكشف عن الفاسدين، فيما بقيت الشكوك تساور الناس عن جدوى الهيئة الجديدة وعدم تعرضها لضغوط الأحزاب والشخصيات المتنفذة.

المفارقة، أن تشكيل المجلس يتزامن مع تقرير منظمة الشفافية الدولية العام الماضي الذي اعتبرت فيه أن العراق يحتل المرتبة 169 من اجمالي 180 دولة مدرجة في مؤشر الفساد، فيما قال عادل عبد المهدي، في تصريح سابق له، إن "هناك 13 ألف ملف فساد مفتوح في هيئة النزاهة".

ملف الفساد في العراق شائك ومعقّد، تتداخل فيه مصالح الأحزاب المتنفذة وإرادتها في البقاء والسيطرة، الأمر الذي يجعل من مكافحته مجازفة كبرى لأي حكومة منذ عام 2003. حيث فشلت كل الحكومات في حسم قضايا الفساد رغم وجود هيئة النزاهة ومؤسسات رقابية أخرى، كانت قد وجدت على أساس الحد من فايروس الفساد الذي أكل جسد الدولة، والتي لم تلبث طويلًا حتى تم تدجينها حزبيًا وضمها لجوقة "الحزب والكتلة".

هذا العجز عن مكافحة الفساد يطرح الشكوك حول قدرة المجلس الجديد على حسم المعركة، خصوصًا أن الحكومة عليها أن تبدأ أولًا بجرد النفقات والمصاريف التي تستنزفها الرئاسات الثلاث "الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء"، والرواتب والمخصصات الخيالية الرائجة فيها، ثم تعرج على ملفات الفساد الأخرى، أليس الأولى؛ أن يبدأ المكافح بنفسه؟!.

فشلت كل الحكومات في حسم قضايا الفساد بالرغم من وجود المؤسسات الرقابية وهيئة النزاهة

وهنا لابد أن نتساءل: أليست هيئة النزاهة والمفتشون العموميون يمثلان منظومةً كاملةً لمكافحة الفساد، ويفترض برئيس الوزراء أن يستعين بهما؟ فلماذا يؤسس لمجالس إضافية تُنهك الدولة على أطلال خرابها؟، ومن جانب آخر، أن الإشكالية ليست في المؤسسات وحسب، وإنما في التطبيق والجدوى، فكيف لرئيس الوزراء أن يحمي المجلس من تدخل الأحزاب لفرض مرشحين حزبيين، أم أنه سينتهي كما الأخريات، حيث تعاني هيئة النزاهة من شخصيات في داخلها تتلاعب بالملفات، إما للمساومة أو لطمرها كما لو كانت قطع معدنية في قعر البحر.

اقرأ/ي أيضًا: تشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفساد بعد تصنيف العراق بين أكثر 13 دولة فاسدة

إن الأحزاب المتنفذة بـ"مسلحيها"، هي من تدير دفة الحكم في البلاد وكل ما يتعلق بالوزارات وما تدر به من صفقات و"كومنشات"، لذلك ليس من المعقول أن نكون مؤمنين بمعجزة قد يأتي بها زعيم سياسي من هذه الأحزاب التي أوجدت الفساد وثقفت له وتعمل على إدامته، ليرمي عصاه لابتلاع أفاعي الفساد المتغلغلة في أروقة الحكم ومنابع الثروات.

إن كانت فعلًا هناك نوايا لمكافحة الفساد، لا بدّ من العمل على دولة المؤسسات لا دولة الأحزاب والمحاصصة، إضافة إلى سيادة القانون على الجميع وليس على البسيط دونما المسؤول. كما أن لا بد من إبداء العزيمة في رأس السلطة لمواجهة حقيقية للفساد أو وجود جهاز مكافحة فساد مستقل وقوي، حيث أن الفوضى السياسية وغياب القانون باتا السمة السائدة، والرأس التنفيذي في كل الحقب الحكومية خذل الجميع بتنصله عن وعوده بضرب الفساد، مما عزّز الشكوك لدى الشارع بجدوى محاربة الفساد، خاصة وإن عبد المهدي، وكما يبدو، أضعف من سلفه.

إذًا، لا أمل إلا في وجود جهاز مستقل وقوي لمكافحة الفساد تعزّزه إرادة سياسية حقيقية وليست "إعلامية"، حيث أن هيئة النزاهة هي هيئة مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب بموجب أحكام الدستور، إلا أنه وخلافًا لذلك تمت السيطرة عليها من قبل الرأس التنفيذي منذ حقبة المالكي الذي جعل مهمة مكافحة الفساد مرتبطة بأمين عام مجلس الوزراء التابع له، واعتبرت هيئة النزاهة جزءًا منه، الأمر الذي جعلها مغلولة اليد تستخدم في تصفية الخصوم.

لا يمكن القضاء على الفساد دون إرادة سياسية حقيقية لمكافحته وهيئة مستقلّة لا تتدخل في عملها الأحزاب الحاكمة

عند الحديث المتكرّر منذ 15 عامًا عن محاربة الفساد، يبدو الأمر مدهشهًا ومضحكًا في إطلاق الأسئلة عنه، هل الفاسد سيكافح الفاسد؟! ننتظر ذلك بفارغ الصبر لنشاهد ما تبقى من مسرحية الفساد في حفلة "المحاصصة" والتوافق على تقسيم ما تبقى من ثروات العراق وأمواله التي يتسابق عليها جميع "البررة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كم عدد المشاريع المتلكئة في العراق؟

من المالكي إلى عبد المهدي.. قصة الـ100 يوم المكرّرة!