لطالما أُخذت صورة شعبية – وأحيانًا نخبوية – خاطئة تختصر كلمة الديمقراطية بمفهومها الواسع التاريخي والنظري والمتنوع الغني بالأفكار، بالانتخابات فحسب – بذهاب المواطنين الذين يحق لهم الاقتراع إلى الصندوق والإدلاء بصوتهم. وإن كانت الانتخابات هي المظهر الأبرز للديمقراطية، وذلك أمر واقعي، لناحية إنها الفعالية الأكبر والأوضح للنظام الديمقراطي، إلا أنها باتت، وتحديدًا بعد التجارب العربية التي بدت كمسرحيات تمثيلية، أقل أهمية في وقتنا الحالي، مقارنة مع المسائل الجوهرية، والتي هي جوهرية في نظرية النظام الديمقراطي، كالفصل بين السلطات، والحريات، والمساواة بين المواطنين، وغيرها من المبادئ المعروفة.
لا يوجد فصلٌ بين السلطات ولا صراع بينها؛ بل هناك صراع سياسي على من هي الجهة التي تستطيع التأثير على القضاء وتستخدم آلياته لمصلحتها السياسية
تقول المادة الأشهر من إعلان حقوق الإنسان لعام 1789 إن "أي مجتمع لا يكون فيه فصل السلطات والحقوق مضمونًا لا يملك دستورًا". لقد كان مفكرون كبار في فرنسا وكذلك في ألمانيا يجدون عدم الفصل بين السلطات تعطيلًا للدستور.
اقرأ/ي أيضًا: التحالفات العابرة للطائفية: دوران مداري
كعادة الأنظمة العربية التي تتحدث بعبارات وتكررها دون وجود مصاديق لها على أرض الواقع، يتحدث كل من في السلطة التنفيذية والتشريعية العراقية ويؤكد على ضرورة استقلال القضاء ودعمه في محاربة الفساد والجرائم وغير ذلك. يستند الدستور العراقي على المادة 88 والتي جاء فيها: "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة".
إن المسألة لا تقف عند "لا سلطان عليهم لغير القانون". فالنقاش لا يدور عمّن يشرّع ويُصدر تلك القوانين إلا في حالات معينة كالنقاش الدائر مؤخرًا حول المحكمة الاتحادية وقضية الفقهاء. فالأوامر القضائية التي تصدر هي من صلب القانون ومختلفة نسبيًا عن طريقة الأنظمة الاستبدادية القديمة بتواقيع الرئيس الأوحد؛ لكن المشكلة بكيفية تطبيق تلك القوانين وانتقائيتها، ومدى تأثير السلطات الأخرى على القضاء وباعتراف من الأخير.
لا يخفى على أحد، كيف وما هي الطريقة التي صدرت من خلالها مذكرات قبض بحق سياسيين بارزين بل ومسؤولين رفيعي المستوى في الدولة العراقية بعد 2003. وكذلك الحال، في أوامر إطلاق السراح وتصفير قضايا محكومين خارج العراق في حوادث شهيرة لعب فيها وسطاء من الدرجة الثانية، ليسوا مسؤولين رسميين، دورًا معروفًا.
هناك إجماع شعبي/ سياسي على أن ما يُصطلح عليهم "حيتان الفساد" هم محميون من الملاحقات القضائية رغم وضوح القضايا المتعلقة بهم سواء أكانوا في المنصب أو خارجه. وليس السلاح والقوة العسكرية هو العامل الوحيد في تحييد تلك القضايا، بل إلى جانبه النفوذ السياسي والمالي، وقد أثبتته التجربة. مع ذلك، فأن المسألة لا تتعلق فقط بعجز السلطة القضائية عن ملاحقة كبار الفاسدين الحكوميين والبرلمانيين.
بالعودة إلى بداية حديثنا عن الفصل والتداخل بين السلطات، والتأثير السياسي على العمل القضائي، نقول: لا يوجد فصلٌ بين السلطات ولا صراع بينها؛ بل هناك صراع سياسي على من هي الجهة التي تستطيع التأثير على القضاء وتستخدم آلياته لمصلحتها السياسية في ملفات عدّة منها ضرب الخصوم.
نفترض أن الانطباع الشعبي العام على العمل القضائي أهم مما كُتب في الدستور ومما تقوله وتدعيه السلطات الأربع. في الحادثة الأخيرة؛ حيث جرى اعتقال إحدى الشخصيات السياسية البارزة، ورغم التُهم الموجهة لهذه الشخصية منذ مدّة، فقد تلقت الأوساط السياسية والإعلامية وحتى الشعبية الخبرَ بلا تفاعل إيجابي. الانطباع العام الأول الذي كان واضحًا بعد خبر الاعتقال هو وجود ضربة سياسية من طرف سياسي لمنافس له من ذات الطائفة. وقد كان ذات الانطباع على اعتقال أحد المحللين السياسيين قبل فترة، ورُبطت الحادثة بانتقام أو ما شابه.
على من يُريد الإصلاح حقًا التفكير في كيفية تغيير فكرة المجتمع نحو النظام "الديمقراطي"
إن هذه الرؤية التي تلقى شُبه إجماع - أي التي تُفسر الأوامر القضائية تفسيرات شخصية أو سياسية أو انتقامية وغير ذلك - هي الأهم في تعريف النظام الديمقراطي وحقيقته نظريًا، والأهم في فهم تصرفات المجتمع المنعكسة من النظام عمليًا. هي الأهم من المادة 88 بآلاف المرات. فالحديثُ عن تعديل الدستور ومشكلات النظام القانونية ليست بأهمية الانطباع ووجهة نظر الناس بعمل السلطة القضائية، وعلى من يُريد الإصلاح حقًا التفكير في كيفية تغيير فكرة المجتمع نحو النظام "الديمقراطي" بواسطة استخدام المواد الموجودة شكلًا في الدستور بعدالة ودون انتقائية وباستمرار.
اقرأ/ي أيضًا: