رغم أن دولنا قُطّعت بأنامل سايكس وبيكو لكنها دُفعت بشيء من الأفكار المبنية على الصعود الثقافي القومي بمجابهة الدولة العثمانية، ومعها أفكار اقتصادية واجتماعية ولما يجب أن تكون عليه الحياة بشكل عامٍ؛ لكن نظام المحاصصة الطائفية بعد 2003 بُني بطريقة لم تستند على أية تنظيرات أو تصورات سواء النابعة من احتياجات المجتمع من أسفل أو بأفكار تتبناها النخب من أعلى.
القرارات المصيرية فيما يتعلق بالسيادة والأمن والاقتصاد في العراق لا تتشكل عبر الفرق الحكومية والنيابية بل باتفاق القادة الحقيقيين خلف الكواليس
في حقيبة محمولة على طائرة تَقل مجاميع المعارضة العراقية القاطنة في الخارج جاءت "الديمقراطية الطائفية" بتصورٍ أمريكي فجّ للواقع المحلي، وفُصّل النظام عبر دمجٍ للمنظومات القبلية المتخلّفة والقوانين الديمقراطية الحديثة لتَخلق أجنّة مشوهة عبثت بمحتويات الدولة التي بقيت صامدة طيلة العقود الماضية.
اقرأ/ي أيضًا: الدولة المختطفة
يُقابل بعض السياسيين والمعلقين هذا النظام "البدائي" بتحليلات تحملُ مفاهيمَ عميقة لا تتناسب وحقيقة الفعل السياسي. يتناول هؤلاء الظواهر التي تحدث في الفضاء السياسي العراقي بمزيد من المصطلحات التي تُعقّد الظاهرة بدلًا عن تفسيرها بسبب الاعتماد على "كليشيهات" مستوردة هي ليست معيبة بحد ذاتها، إذ لسنا بصدد التعظيم منها على حساب تقزيم شعوبنا ودولنا؛ لكن واقع الحال يقول إن الفعل السياسي في العراق يتمثّل عبر تصريحات من قنوات ثانوية أخذت في الفترة الأخيرة جانبًا أكثر وضوحًا وفضحًا حتى صارت قنوات إلكترونية بصورة صريحة، سواء على فيسبوك أو تلغرام، وبأسماء وهمية.
ليتخيل القارئ غير العراقي أن أحداثًا كبرى تنطلق عبر تغريدة أو منشور أو رسالة على تطبيق إلكتروني من شخصية أو مجموعة لا يعرفها أحد! هي ترجمة متطورة جلية لحقيقة هذا النظام الذي يُقاد عبر حكومة ظل مكونة من مجموعة قادة، مُمثَّلين عبر شخصيات ثانوية في الحكومة والبرلمان. إن القرارات المصيرية فيما يتعلق بالسيادة والأمن والاقتصاد وغيرها لا تتشكل عبر الفرق الحكومية والنيابية بل باتفاق القادة الحقيقيين خلف الكواليس.. ثم بعد ذلك كلهُ يجري الحديث عن الديمقراطية والأغلبية والبراغماتية والآيديولوجية .. إلخ.
يسود الآن حول العالم مصطلح الشعبوية متغذيًا على صعود شعبويين من أمثال دونالد ترامب على رأس هرم كبريات الدول ما يسلط مزيدًا من الضوء على تلك الشخصيات وظاهرة الشعبوية في تلك البلدان؛ ولكن - إن أردنا إسقاط هذا المفهوم على سبيل المثال، على دولنا وتحديدًا العراق - هل يُمكن اعتبار السياسيين العراقيين "شعبويين"؟!
الحق، إن تملّق مشاعر الناس وأهوائهم في سبيل الحصول ـ أو التمسك - بالسلطة كأحد مدلولات الشعبوية ينطبق على الأحزاب السياسية العراقية خصوصًا في القضايا الطائفية؛ ولكن، وفي تحليل أصل الظاهرة وصعودها في الغرب لناحية فكرة التمرد على النظام الراسخ، هل يُمكن اعتبار هذه الأحزاب "شعبوية"؟ وهي شعبوية ضد من إن كانت هي النظام؟ وما هي المنظومة التي يحثون الناس على التمرد ضدها؟
يُمكن لهذه الأسئلة أن تُوضح شعبوية المنظومة ذاتها وغياب المؤسسات الحديثة الراسخة التي من المفترض أن تكون الشعبوية ردة فعل ضدها، وهو مثال يحثّنا على الحذر في استخدام الكثير من المصطلحات المستخدمة في التعليق السياسي.
في تحليل أصل ظاهرة الشعبوية وصعودها في الغرب لناحية فكرة التمرد على النظام الراسخ، هل يُمكن اعتبار الأحزاب في العراق "شعبوية"؟
على جانب آخر، نعيش في دولة تبيع النفط وتوزّع ريعه حصصًا على رعاياها ومحافظاتها استنادًا إلى معايير عبثية، تشبه نسبيًا ما يُطلق عليه في العراق "الدُكان"، أو الأسواق الصغيرة التي يديرها رب المنزل وينقل إيراداته إلى زوجته التي تبوّبها للأغذية والبقالة والاحتياجات المنزلية والدراسية ومصاريف الأطفال.. إلخ. في هذه الدولة، يقول مستشار الحكومة المالي إن تخفيض قيمة الدينار قليلًا بعد رفعه سيضر بـ"مجتمع الاقتصاد"، وكأننا أمام اقتصاد فعّال ومجتمع له وحراك ومنظومة ستتأثر بالتخبطات (المفاجِئة!) أو أن خفْض قيمة الدينار بالطريقة التي حصلت، وإطلاق التصريحات التي ترعبُ الناس، وتفريغ الدولار من الأسواق، كانت خطوات مفيدة لـ"مجتمع الاقتصاد" المفترض في ذهن المستشار، الذي يُصادف تعليقه مع قيام الملياردير إيلون ماسك بوضع علامة بتكوين في ملفه التعريفي على تويتر لترتفع قيمة العملة فورًا بنسبة 20%.. ولنتخيل فداحة استخدام مصطلحات مثل "مجتمع الاقتصاد" و"الأمن القومي" و"التحول الديمقراطي" في نظامٍ مثل نظامنا.
اقرأ/ي أيضًا: