17-مارس-2020

الفرد هو النواة في بث الإشعاع الأسطوري (فيسبوك)

للثقافات أساطيرها التي تشكّل نقاطها المرجعية، وللأفراد كذلك. مثلما للفرد شعور بالأهمية وتضخّم الذات وعبوديتها، فللجماعة إطارها الأوسع من أساطير الفرد. لكن تبقى العلاقة جدلية بين الاثنين، ذلك أنه لا الجماعة، بعنوانها التجريدي، يمكن أن تنبثق منها الأساطير بوصفها جماعة دون اعتماد علاقة الفرد، ولا هذا الأخير، يمكنه التغنّي بأساطيره الشخصية خارج أفق الجماعة. صحيح أن العلاقة اعتمادية بين الفرد والجماعة؛ فالاثنين يتفاعلان لتحديد العناصر المشتركة لبنية الهوية الجماعية. غير أن نقطة القوة التي تسجلها الجماعة على الفرد، هي أنها ستدمّر هوية هذا الأخير لصالحها من خلال التضحية بخصوصيته الفردية. ويكثر هذا النمط من الولاءات عند الجماعات المتعصبة ذات اليقينيات الراسخة، التي تشكّل الموضوع المركزي لهذا المقال بالتحديد.

من النادر للغاية العثور على شخصٍ خالٍ من الأساطير الشخصية؛ ذلك أن الفرد هو النواة في بث الإشعاع الأسطوري

عن طريق التبادل والتضامن المستمر بين الذوات وسعيها الحثيث لحفظ وجودها، لا بد أن تتقدم الأسطورة خطوة إلى الأمام لتتشكّل السردية الكبرى للهوية الجماعية المقدسة وبأساطيرها التي تلفّها على نفسها، من قبيل العرق النقي، والقومية النقية، والديانة الحق، والمذهب الحق، والأيديلوجيا الحق..الخ، وما بين هذه السرديات يتساقط آلاف الضحايا دفاعًا عن وجودهم!

اقرأ/ي أيضًا: في العدمية السياسية

من النادر للغاية العثور على شخصٍ خالٍ من الأساطير الشخصية؛ ذلك أن الفرد هو النواة في بث الإشعاع الأسطوري! والبنية التحتية في تشكيل مخيال الجماعة، وبالخصوص الشخصية الكارزمية. لا زال النظام الهرمي في الصين الشعبية ساري المفعول حتى لو كان أحد تطبيقاته الحزب الشيوعي! ولا زال شخص الإمبراطور متجسدًا في الرئيس الصيني الذي أعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة. فالقيم الثقافية لهذا الشعب تفرض نفسها حتى لو قبلت بقيم الحداثة  الغربية بشقها التكنولوجي!

إضافة إلى أنها تميل الجماعات إلى إضفاء صفات قداسية لا تاريخية لشخصياتها الكاريزمية كنوع من التعويض لما خسرته. إنها باللحظة التي ترسم القداسة لرموزها، فهي تعوض من خلالها ما عجزت عن تحقيقه في حياتها الخاصة. لكن ليس بالضرورة أن يكون التعويض مطابقًا لما ترغبه لسماتها الشخصية، وإنما تفعّل مخيالها لإسقاط قيم إضافية كنوع من الحماية لوجودها، أو أمدادها بالشعور العميق كونها على حق. ولكي تكون على حق ينبغي أن تضفي على سرديتها وشخصياتها نوعًا من الحقّانية والتفرّد والامتياز، ولذا يتحول الأفراد داخل الجماعة إلى أعضاء تخضع لحركة ميكانيكية ترتبط يبعضها وتخضع لاكراهات الذهن العام، أعني به ذهن الجماعة.

فتبدأ الجماعة بالإنابة عن الأفراد في التفكير - عبر شخصياتها الكاريزمية - وتغدو هي "الذهن" والإطار العام لعمليات التفكير، ويكثفها، هذا الذهن، في هوية جماعية واحدة صلبة ومتماسكة. إن ذهن الجماعة لا يسمح بأنشطة التفكير الفردية داخل الهوية الجماعية، إلّا بوصفها داعمة ومعززة لأواصر الجماعة، فبخلافه يغدو الفرد منبوذًا من هذه الهوية. ليس الجماعة فحسب، بل لا  يسمح الفرد، هو الآخر، بالتفريط بقيم الجماعة، لأنه ضحّى بوجوده الخاص من أجلها. بل هو من سيدافع بعنف إذا تطلب الأمر إزاء التهديدات التي تعرقل سير الجماعة أو التشكيك بهويتها، أو بتعبير أدق: من يهدد نقاطها المرجعية. على الفرد أن يذكّر نفسه دائمًا، حينما يقرر الدخول  في الجماعة، فهذا الدخول هو عملية تعويض للشروط الذاتية والموضوعية التي فقدها، فلا مجال للتشكيك.

لا مجال للتشكيك في هوية الجماعة، إذ لا بد أن يترك الفرد هذه "الوساوس" وراءه؛ فالاحتمالات والترجيحات والمقارنات والشكوك تخلخل عملية الانتماء وتضعها في نقطة حرجة، وتعزز حالة التمرد داخل الهوية الجماعية. هذه الأدوات تُستَخدَم كطريقة كفاحية ضد الآخر، أيًا كان هذا الآخر؛ الديني، القومي، المذهبي. بل حتّى لو كان هذا الآخر مؤسساتيّ! لأنه سيؤجج حالة صراع فريدة من نوعها: الصراع بين التنظيمات العقلانية الطوعية التي تنتمي لسياقات المجتمع الحديث، وجماعات تنتمي لحالة ما قبل الدولة. ومع شديد الأسف تغيب في منطقتنا التنظيمات من الصنف الأول وتحظر بقوة التنظيمات من الصنف الثاني.

على أي حال، حينما تجد تلك النرجسية نفسها مجروحة ومهزومة، فإنها لا تقوى على مواجهة الوجود لوحدها، فتسعى هربًا لنرجسية جماعية - بتعبير أيريك فروم -  لتضفي كل صنوف التبجيل والقداسة على جماعتها تعويضًا عن أساطيرها ونرجسيتها الشخصية. وبالطبع من يختار الدخول في الجماعة ستكون السردية العامة هي نقطته المرجعية رغم بقاء بعض الخصائص العامة لأساطيره الشخصية، غير أنها "خصوصية" موهومة ليس له منها إلّا الإذعان والقبول.

 نحن لا نسقط على هوياتنا إلّا ما نرغبه، لا ما هو موجود فعلًا على نحو مباشر

 حينما تتحكم الهوية في فهم الواقع، فستتحول هذه الأخيرة إلى ما يشبه الطوطم! نضفي عليها الكثير من الصفات  فوق البشرية. للأسف الشديد نحن لا نسقط على هوياتنا إلّا ما نرغبه، لا ما هو موجود فعلًا على نحو مباشر. نرغب كثيرًا أن نفسر أنماطنا الذهنية والنفسية، داخل حدود الهوية، طبقًا لآليات غير مباشرة وبعيدة عن ملامسة الواقع. نسعى بشكل حثيث للابتعاد عن ملامسة جوهر الموضوع عبر تضخيم السرديات التي نروي من خلالها سردياتنا للآخرين. وهذا النزوع له ما يبرره، ذلك أن شعورنا بالوجود يدفعنا إلى هذه التكلفة الباهظة في السرد المُتَخَيَّل حول انتماءاتنا. كما لو أن وجودنا يغدو مهدَدًا برمّته إن لم يكن متضخمًا بشكلٍ أسطوري تألفه النفس! إنه جهل بالواقع المباشر الخالي من كل أشكال العقلانية. وطبقًا لهذه الحقيقة سيبدو من الصعب للغاية النظر إلى هذا الواقع فعليًا وعلى نحو مباشر، لأن النظر إليه بصورة واقعية فهو يعني ما يعنيه أنه سيحرمنا من الابتهاج بأساطيرنا الهوياتية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

آلام وتحديات الواقع

عن وثنيتنا المعاصرة