جرب العراقيون كل أشكال المعاناة، وهم الآن يتطلعون لحياة أفضل. لقد دافعوا عن هوياتهم الفرعية، وكانت تمثل لهم وجودهم الأصيل. وبين الحين والآخر تبرهن لنا بعض الجماعات أن هوياتها الفرعية أقدس من أي شيء آخر؛ فالمذهب والعشيرة، مثلًا، وجود أصيل بنظرهم، أما الدولة فوجودها زائف. وتشتد هذه "الأصالة" عند القوى السياسية التي لا تمتلك نظرية سياسية واضحة المعالم، ولا يوجد أي أثر أو إيحاء لمفهوم الدولة في تاريخها السياسي.
نتيجة للضربات وخيبات الأمل المتوالية كف الكثير من العراقيين عن الارتماء في أحضان هوياتهم الفرعية
لكن ثمّة وعي يتنامى بالتدريج نابع من الإحساس العميق بالخذلان المبين الذي مني به العراقيون وهم يتطلعون إلى حياة سعيدة ومُرَفَّهَة. ولقد تلمّسنا آثار هذا الوعي في الانتخابات الأخيرة التي كانت بمنزلة الضربة القاضية لبعض الجماعات السياسية المهيمنة. لقد كان رد العراقيين موجعًا وربحوا فيه أولى جولاتهم، وبرهنوا حقًا أنهم توّاقون للتغيير.
اقرأ/ي أيضًا: 2021.. عام البصمة التشرينية
ونتيجة للضربات وخيبات الأمل المتوالية كف الكثير من العراقيين عن الارتماء في أحضان هوياتهم الفرعية، ولم تعد الطائفية سوقًا رائجة هذه الأيام؛ فالتسويات السياسية، والصفقات، والتغطية المتبادلة بين القوى السياسية الفاسدة، وتقسيم المغانم، وغيرها، كشفت للعراقيين حجم الأوهام والأكاذيب التي كانوا يتمسكون بها.
حتى الشباب الذين أبدوا حماسة عاطفية متطرفة، ودافعوا بتعصب عن وجهات نظرهم، ومارسوا التخوين فيما بينهم، هم الآن، على الأرجح، في طور مراجعة الذات والاستفادة من الأخطاء السابقة. المهم في الأمر معظم العراقيين اكتشفوا أساطير السلطة، واكتشفوا أيضًا أن ملاذهم الأخير يتمثل بالدولة ومؤسساتها العصرية، باعتبارها هي الوجود الأصيل، وما عداها من الهويات الفرعية، ومن ناحية سياسية بالتأكيد، وجود زائف. فالوجود "الأصيل" السابق، أي هوياتهم الفرعية، لم تكن ملاذًا آمنًا على الإطلاق مقارنة بالدولة. إذًا، تم قلب المعادلة بشكل عام؛ من شعور عميق بأصالة سلطة الهويات الفرعية، إلى شعور عميق بأصالة وجود الدولة.
إلا السياسيين فهم مصرون على ما يبدو على سرقة أعز ما نملك وهي راحة البال كما لو أن هناك إجماع على تحطيم الذات العراقية. ليس هذا فحسب، بل ارتضوا لأنفسم أن تكتريهم بعض القوى الإقليمية ليتحولوا إلى متحدثين رسميين لصالح هذه القوى، أو تجّار ثانويين لترويج بضائعها حتى لو وُجدَ ما يعادلها في الداخل، وليس من مصلحتهم أيضًا تشييد البنى التحتية الصناعية فذلك إيذانًا بخرابهم. وخراب البلد مُقَدَّمٌ، بالضرورة على خرابهم؛ شهد العراق الكثير من الخرابات فليس جديدًا عليه أن يحتمل سياسيو ما بعد 2003.
تكمن المفارقة هنا وبالذات: بينما يتطلّع عموم العراقيين إلى دولة قوية تبسط نفوذها وعدالتها وحرياتها على الجميع دون تمييز، يتطلّع السياسيون، في الجانب الآخر، إلى خرابنا واستنزاف ثروة الأجيال اللاحقة. ولا يكتفون بكل ذلك إلّا بالحط من كرامة العراقيين. ويتحول هذا البلد الثري إلى بيئة طاردة لأبنائه، ولا يرون البلد سوى "غيتو" يخنق أنفاسهم ويقيد حرياتهم ويهدر ثرواتهم باسم القيم النبيلة.
هل أخذوا العبرة من الماضين كيف كانوا وأين انتهى بهم المطاف؟ على الإطلاق! بل يزدادون صلفًا وعدوانية بمرور الأيام. ماذا فهموا من هذه الآية القرآنية "وتلك الأيام نداولها بين الناس"؟ يبدو أنهم ليسوا مشمولين، ولديهم من التبريرات ما يكفي لحرق البلد عن بكرة أبيه بكل طيب خاطر ودون أن يرمش لهم جفن.
ماذا نتوقع من قوى سياسية طائفية، الشيعة، والسنة، والكرد، ليس لديهم نظرية سياسية أو اقتصادية أو حتى مجرد فكرة عن الدولة. اتفق الجميع على المضي قدمًا على تفريغ البلد من ثرواته، وعلى الأجيال الجديدة تحمّل هذه الفاتورة الباهظة الثمن، ومن يعترض على هذه السياسيات فربما يجد نفسه، أو لا يجد نفسه في إحدى الدهاليز المُظلِمَة.
اقرأ/ي أيضًا: